موت الشارع

يوسف بزي
الخميس   2024/09/12
لم يكن لدى السلطة ما تقوله إلا توجيه الإهانة لمن يحاول الاحتجاج (علي علوش)
من بعيد، من خارج لبنان أشاهد حرق الإطارات، وسيلة الاحتجاج غير الجذابة، في شوارع بيروت. من بعيد أشاهد بقهر المتقاعدين الذين ما عاد لديهم صلة بالدولة التي خدموها، إلا عبر الصرخة والحجر والعصا والإطار المحروق. وحدهم يصارعون سلطة ما عادت مكترثة بشيء، وأعجز من أن تبدي اكتراثاً بكرامة مواطنيها، وقد أنستهم أصلاً طلب الرفاهية، وأودت بهم وبخزائن الدولة إلى الإفلاس.

لم يكن لدى السلطة ما تقوله إلا توجيه الإهانة لمن يحاول الاحتجاج. قالت لهم "أنتم مشبوهون". والشبهة تقع فور إعلان الاعتراض العلني. وربما سيقارب الاعتراض- كل اعتراض- شبهة الخيانة الوطنية.

المواطنون أصحاب الحس السليم، يعرفون بالضبط من هم المشبوهين. يعرفون المتهمين الذين اقترفوا حرق المليارات وحرق أتعاب أجيال وحرق مستقبل بأكمله.

مع ذلك كان أولئك المتقاعدون وحدهم في الشارع. ليس أمامهم سوى الشغب بعدما تحطمت الأدوات المشروعة لنيل أي مطلب.

لم يستجب أحد لنداء المتقاعدين. تُركوا هكذا منفردين في الشارع. لم يسبب حراكهم أي شرارة. استمر السكان على معتادهم. فما عادوا مستعدين لمغادرة غرف إحباطهم، ولا قابلين لإطلاق هتاف أو السير في تظاهرة.. ولا حتى للوقوف في اعتصام.

المدينة المحطمة بأهلها الذين استسلموا أخيراً لقدرهم، تواضعت طموحاتها وطموحاتهم كثيراً. وما من حافز للخروج من هذا الصمت الجنائزي الذي يغلف الجمهورية.

كان خوف الحكومة من هؤلاء "المشبوهين" في غير محله. وربما بيانها الاستفزازي وحديثها عن حركة انقلابية، يظهر عمق الضعف والخوف من أن تنفجر في وجهها على نحو مباغت 17 تشرين جديدة. وهي لهذا السبب بدت في بيانها وكأنها تتخيل أشباحاً ويتراءى لها عفاريت.

ما شهدناه ليل الثلاثاء- الأربعاء، دلّ على توجس سياسي وأمني وإعلامي من انتفاضة ما. وهي لم تحصل لا بمناسبة غضب المتقاعدين، ولا بلحظة وصول رياض سلامة مخفوراً إلى قصر العدل (30 متظاهراً على الأكثر)، ولا بأي وقت من أوقات مضت وستأتي قريباً للاعتراض على انزلاق لبنان نحو الحرب المرفوضة.

الشارع، أي ميدان الاحتجاج والتعبير والمعارضة.. مات.

يمكن للسلطة أن تفعل ما تشاء، أو بالأحرى، يمكنها أن لا تفعل شيئاً على الإطلاق، وأن تبقى هكذا ضعيفة ومتسلطة في آن واحد. مفلسة وناهبة في الوقت ذاته، حاكمة ومستقيلة، حاضرة وغائبة أيضاً.

المشاهد البائسة ليست بضآلة وعزلة المحتجين وحسب، إنما بوجوه وزراء هذه الحكومة ورئيسها، وأدائهم الكاريكاتوري الذي لا يُضحك ولا يُحزن أحداً.

على امتداد ثلاث سنوات، جرى "تطبيع" الكارثة بوصفها طريقة الحياة الوحيدة المتاحة. واقتنع اللبنانيون أن نمط عيشهم بلا دولة حقيقية، بلا اقتصاد فعلي، بلا سياسة، بلا أمل... هو أهون الشرور. وأن أي تمرد هو عبث وشغب من غير طائل.

وإذ ينظرون ويشاهدون ما نزل وينزل بدول وشعوب الجوار القريب والبعيد، تتكرس قناعتهم بالعيش هامدين صامتين بأكتاف منحنية. وكل ما يضمرونه من شكوى أضحى قليل القيمة والأهمية بالنظر إلى ما يهدد حياتهم وعمرانهم وممتلكاتهم وبلدهم بأسره، عبر حرب تلوح في الأفق.  

ففي ليلة الثلاثاء- الأربعاء البيروتية والطرابلسية المفعمة بدخان المطاط المشتعل، كان الجنوب اللبناني يحترق. والدولة "الموقوفة" أو المخطوفة كانت تتفرج. ليس بمقدورها إن تكون إطفائية ولا مسعفة، ناهيك أن تمنع البلاء في الأصل. وهي فوق ذلك ارتضت دورها المخزي، أي أن تتخلى عن أدوارها ووظيفتها الأولى: حماية أرضها وشعبها.

واللبنانيون إذ يعرفون حالهم هذه، كانوا أيضاً يتفرجون مستسلمين للمحرقة التي يرون تباشيرها بلا أي مقاومة. لقد سلب منهم حق تقرير مصيرهم.

ولا مرة أبدى اللبنانيون هذا القدر من سهولة الانقياد والخضوع. ولا مرة كان الشارع اللبناني ميتاً إلى هذا الحد.