سجلات كسروان مهددة بالضياع: خريف الدولة ومؤسساتها

دنيز عطالله
الخميس   2024/09/12
واقع دوائر الأحوال الشخصية في كسروان والفتوح يهدد بضياع وثائق آلاف المواطنين (Getty)
 

ماذا لو استيقظ أي مواطن يوماً ليكتشف أنه ليس موجوداً "واقعيا"؟ ماذا لو أراد الحصول على ما يثبت ولادته ووجوده فما وصل إلا إلى قصاصات ونتف من أوراق ممحية ومهترئة؟.
هو ليس سؤالاً فلسفياً ولا نقاشاً في أزمات الهوية واضطراباتها. هو سؤال مشروع يستند إلى واقع حال معظم "سجلات النفوس" ودوائر الأحوال الشخصية.
دائرتا كسروان والفتوح مثال على "الاهتراء" الذي ينفذ عميقاً إلى مستندات الدولة ومواطنيها. وقد بلغ حدّاً يهدد بضياع سجلات آلاف المواطنين وما يترتب عن ذلك من فقدان الهوية القانونية والحرمان من الحقوق والخدمات وصولاً إلى الصعوبات في السفر والإقامة في أي بلد آخر.
أما الذاكرة الجماعية، أما الهوية الفردية وعلاقات الناس وأحوالهم الشخصية والعامة، فتلك تفاصيل لا يُسال عنها، ما دام "الوجود" منتفياً.
أثار نواب كسروان-الفتوح هذه القضية مراراً. لمحوا إلى استهدافات في السياسة لمنطقة وناسها. اشتكى مواطنون كثر، دُهشوا من حجم الترهل الذي أصاب سجلاتهم. طالب المخاتير بسجلات جديدة... بنَسخ القديمة... بالاتيان ب"سكانر"... بالمكننة...الاّ ان كل ذلك بقي أصواتاً لا رجع لصداها.

إرث انساني وإداري
يقول رئيس رابطة مخاتير كسروان جو ناضرلـ "المدن" إن "الواقع المزري لبعض سجلات النفوس يدفعنا إلى التشديد على المواطنين بالاحتفاظ باخراجات قيودهم القديمة، إذ يمكن أن تكون وسيلتهم الوحيدة للتعريف عن أنفسهم ووجودهم".

يقسم ناضر سجلات الأحوال الشخصية إلى أكثر من فئة "ليس بينها ما هو جيد، إنما هناك ما هو أقل سوءاً". ويشرح أن هذه السجلات تتضمن وثائق الولادة ، الزواج، الطلاق، تبديل المذهب، التبني، تبديل مكان القيد والوفاة وغيرها، وهي جميعاً مهددة".
يضيف "هو إرث انساني وهوياتي بقدر ما هو سجل حيويّ لجميع الناس في معاملاتهم الرسمية ووثائقهم".
يقول ناضر: "من بين نحو 62 سجلاً لكسروان والفتوح هنالك سجلات تحتاج إلى تجديد كامل، واخرى ما عاد فيها متسع من الصفحات فيُكتب على أغلفتها، وبعض السجلات يتعذر قراءتها". يضيف "قبل أيام ترافقنا مع النائب شوقي الدكاش إلى وزارة الداخلية وتطرقنا مع الوزير بسام المولوي إلى هذه النقطة وكان متفهماً جداً ومتجاوباً مع مطالبنا بوجوب إيجاد حل سريع لهذه القضية الحساسة".

مديرية الأحوال الشخصية
تؤكد مدير عام الاحوال الشخصية ردينة مرعب لـ"المدن" على العمل الجديّ في "ايجاد حلّ سريع لسجلات النفوس التالفة في أكثر من منطقة لاسيما الأكثر الحاحاً في كسروان والفتوح وحمانا وزغرتا المتضررة بشدّة". وتشرح انها منذ استلام مهامها قبل نحو شهرين ونصف طلبت من مأموري النفوس افادتها بواقع الأمور، وتؤكد أنها زارت دائرتي كسروان والفتوح واطلعت على الواقع وهي بصدد وضع حلول بعد اكتمال كل المعطيات وعرضها على الوزير للبدء بنسخ السجلات.
وتشير مرعب إلى أن "النسخ ضروري وهو لا يتعارض مع المكننة التي بدأنا في اعتمادها في بعض الوثائق كاخراج القيد مثلا".

ولا تنفي أن الكلفة المالية تشكل عائقاً ، لكن نسعى إلى حل عقبة تلو اخرى لاستعادة سجلات الأحوال الشخصية. ولا بد من أن تتضافر الجهود وان نتعاون مع مأموري النفوس وباشرافهم لانجاز العمل. وأتمنى أن يتم ذلك سواء بالإستعانة بالموظفين الحاليين أو المتقاعدين، لانهم يتقنون هذا العمل الذي لا يمكن أن يقوم به طلاب أو متدربون ويحتاج إلى اصحاب خبرة. كما أن ذلك يؤمن للموظفين مدخولاً اضافيا وفي الوقت نفسه لا تكون الكلفة عالية على الدولة".

تهديد الوجود
مختارة زوق مكايل جوزيان خليل التي شاركت، سابقاً، في دورة تدريبية مع بلدية "روي مالميزون" الفرنسية تروي لـ"المدن" باعجاب و"غيرة" كيفية احتفاظ البلدة الفرنسية بثلاث نسخ من وثائق الأحوال الشخصية بغرف محصنة وفي ظروف وتقنيات عالية الجودة. يحفظون نسخة ورقية وأخرى الكترونية ويعملون في نسخة ثالثة. تتأسف "لوضع سجلات النفوس غير المقبول في لبنان" معتبرة أنها "تهديد لكل انسان بوجوده وبحياته وأحواله وحتى مماته". وترى أنه "إضافة إلى ترهل السجلات واهترائها، فان الاستمرار بطريقة حفظها بالطريقة المتبعة تهدد ما تبقى منها". متسائلة: "ماذا لو احترقت بسبب خطأ، كما حصل مثلا في الشوف وضاع جزء من السجلات؟ ماذا لو تعرضت لأي خطأ بشري أو عامل طبيعي؟ ". وتعتبر خليل أنه "من غير المقبول الّا تمتلك وزارة الداخلية نسخاً محفوظة عن كل سجلات القيود في حين واقع هذه السجلات مزري".

ترميم في جامعة الكسليك
كعادتها، لم تتأخر جامعة الروح القدس في الكسليك عن مدّ العون لمجتمعها خصوصاً وأن الخطر يطال حيوات الناس وتاريخهم ووجودهم. بادرت الجامعة إلى ترميم بعض السجلات التالفة تطوعاً منذ فترة. وتقول مديرة مركز الحفظ والترميم في مكتبة جامعة الروح القدس آسين الجميّل لـ"المدن" أن "الجامعة تعمل على 10 سجلات تضم وثائق 14 بلدة وهي الأكثر تلفاً. وهناك سجلات ممزقة إلى أوراق صغيرة جداً جُمعت وتم كنسها احياناً عن الأرض ووضعت بعلب صغيرة، وهذه السجلات نعمل عليها بدقة متناهية وتحتاج نحو 7 سنوات لتُنجز".

تحرص الجامعة "على كل قصاصة ورق، فضياعها يعني ربما ضياع شخص". وتقول الجميّل أن الحل لوثائق الأحوال الشخصية يحتاج إلى مجموعة اجراءات منها اعادة النسخ والرقمنة وطريقة الحفظ والاحتفاظ بنسخ جانبية لحماية الوثائق، وهذا طبعاً من مسؤوليات الدولة".

و...بانتظار الدولة، تتساقط مزيد من الأوراق في دوائر الأحوال الشخصية وتتحلل، في ما يشبه تساقط أوراق التجربة اللبنانية واحدة تلو الأخرى، في خريف مسرع الخطى .