ظاهرة "الإقصاء المالي" وهواجس اللائحة الرماديّة

علي نور الدين
السبت   2024/09/14
توسعة نطاق اقتصاد النقد الورقي سيكون له نتائج كارثيّة على علاقة لبنان مع الخارج (Getty)


خلال العام 2021، تناولت "المدن" ظاهرة "الإقصاء المالي" التي كان مرّ بها النظام المصرفي اللبناني منذ بدء الأزمة الماليّة الراهنة، وهي الظاهرة النقيض لمهفوم "الشمول المالي".
إذا كان الشمول المالي هو دمج المقيمين وتداولاتهم الماليّة في إطار النظام المالي القائم، فالإقصاء المالي هو المفهوم المعاكس تمامًا: أن تدفعهم بشكلٍ مباشر أو غير مباشر إلى الخروج من هذا النظام. يومها، توقّع مقال "المدن" مخاطر هذه الظاهرة على مستوى تحويل السوق إلى جنّة من جنّات تبييض الأموال، بفعل توسّع اقتصاد النقد الورقي، وما سينجم عن ذلك من مخاطر تهدّد علاقة لبنان بالنظام المالي العالمي.

بعد نحو ثلاث سنوات من نشر ذلك المقال، تفاقمت كل المؤشّرات التي تعبّر عن ظاهرة الإقصاء المالي. وكنتيجة بديهيّة لذلك، بات لبنان يواجه –أكثر من أي وقت مضى- مخاطر الإدراج على "اللائحة الرماديّة" لمجموعة العمل المالي. الإقصاء المالي لم يعد عاملًا يهدّد نوعيّة حياة المقيمين فحسب، ودرجة استفادتهم من الخدمات المصرفيّة البديهيّة، بل بات يهدّد شكل اندماج البلاد بأسرها في النظام الاقتصادي العالمي. العودة لهذه المؤشّرات، ورصد التحوّلات التي طرأت عليها اليوم، قد تكون ضروريّة لفهم طبيعة التحوّلات التي وضعتنا أمام احتمال الدخول إلى اللائحة الرماديّة.

تفاقم مؤشّرات الإقصاء المالي
الأرقام التي نشرها مصرف لبنان مؤخرًا تشير إلى أنّ عدد البطاقات المصرفيّة التي تم إصدارها تدنّى -لغاية أواخر العام 2023- إلى حدود الـ 1.87 مليون بطاقة، مقارنة بـ 2.38 مليون بطاقة في أواخر العام السابق 2022، و2.6 مليون بطاقة في أواخر العام 2021، و2.83 مليون بطاقة عام 2020. في بدايات الأزمة، أي في أواخر العام 2019، كان هناك أكثر من 3.04 مليون بطاقة مداولة داخل النظام المصرفي اللبناني.

على هذا النحو، يمكن القول أن النظام المصرفي اللبناني خسر -منذ بداية الأزمة- 38% من حجم البطاقات المصرفيّة المُصدّرة. حجم البطاقات المُصدّرة، حتّى أواخر العام الماضي، لم يوازي حاليًا أكثر من 32% من عدد المقيمين في لبنان. أو لنصف الواقع بصورة أوضح: بات 68% من المقيمين في لبنان خارج النظام المالي وخدماته.

القطاعات الاقتصاديّة لم تكن أقل إقصاءً من الأفراد، في ابتعادها عن أدوات التعامل مع النظام المالي. الأرقام نفسها تشير مثلًا إلى أنّ عدد ماكينات الدفع –عبر البطاقات المصرفيّة- في المحلّات التجاريّة تراجع إلى 36.92 ألف ماكينة بحلول أواخر العام 2023، مقارنة بـ 41.38 ألف ماكينة في أواخر العام السابق 2022، و43.93 ألف ماكينة أواخر العام 2021، و45.72 ألف ماكينة أواخر العام 2020. في بدايات الأزمة، كان هناك 48.47 ألف ماكينة في أواخر العام 2019.

من هذه الزاوية يتبيّن أن القطاع المصرفي خسر خلال سنوات الأزمة نحو ربع ماكينات الدفع الآلي الموجودة في المحال التجاريّة، وهو يرتبط طبعًا بتراجع استعمال البطاقات المصرفيّة، وإقفال الحسابات المصرفيّة القائمة. مع الإشارة إلى أنّ عدد ماكينات السحب الآلي -في الفروع المصرفيّة- تراجع بدوره خلال فترة نفسها: من 2,003 ماكينات منتشرة في عموم الأراضي اللبنانيّة، في أواخر العام 2019، إلى 1,244 ماكينة في أواخر العام 2023. أي بهذا المعنى، تفاعلت المصارف نفسها مع تراجع الطلب على الخدمات المصرفيّة، وتراجع نسبة الأفراد المشمولين بالنظام المالي.

في تلك الأرقام ما ينبغي التوقّف عنده، بخصوص درجة الشمول المالي في المناطق البعيدة عن العاصمة. محافظة النبطيّة مثلًا، لم تحصل على أكثر من 2% من إجمالي ماكينات السحب المنتشرة في لبنان، بينما بلغت هذه النسبة 8.7% في محافظة الجنوب، و8.9% في محافظة البقاع، و10.7% في شمال لبنان. في المقابل، تركّز 70% من ماكينات السحب الآلي المتبقية في محافظتين فقط، هما بيروت وجبل لبنان.

من الشمول المالي إلى الإقصاء المالي
قبل العام 2019، كان مفهوم الشمول المالي يحتلّ مكانة مركزيّة في جميع أدبيّات مصرف لبنان وجمعيّة المصارف. بل كان هناك خطط ولقاءات وإجراءات تُعد خصّيصًا لتثبيت هذا المفهوم وتحقيق أهدافه: توسعة القاعدة الاجتماعيّة التي تعمل من خلال المصارف والنظام المالي، وتقليص نسبة الأفراد الذين لا يملكون حسابًا مصرفيًا ولا يستفيدون من خدمات القطاع المالي. وكان من البديهي وضع مؤشّرات لقياس نجاح القطاع المصرفي، في تحقيق أهداف الشمول المالي، ومنها المؤشّرات التي تناولناها أعلاه، ومازلنا نرصدها (لكنّ المصارف طبعًا، لم تعد تتحدّث عن هدف الشمول المالي منذ 2019).

الفكرة قبل العام 2019 كانت بسيطة: كلما حقّق القطاع ومصرف لبنان أهداف الشمول المالي، زادت العمليّات –والعمولات- داخل القطاع. وتقلّص هامش الاقتصاد النقدي، وبذلك تنخفض مخاطر تبييض الأموال وتمويل "الإرهاب". من يفتح حساب توطين راتب اليوم، سيكون "هدفًا" لمنتجات أخرى في المستقبل: قرض سيّارة، أو بطاقة إئتمانيّة، أو قرض سكني...إلخ. وفي المقابل، سيحقّق الشمول المالي أهداف "التحديث" على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، وسيخدم بشكلٍ ما -وفق هذا المنطق- مصالح الأفراد، من خلال الانخراط في النظام المالي.

هذا "العقد الجماعي" المالي، تعرّض لطعنة كبرى عام 2019. لم يعد توطين الراتب، ولو بالدولارات الطازجة، مقدّمة، في معظم المصارف، لأي خدمات ماليّة تُذكر في المستقبل. والمصارف لم تعد مهتمّة أصلًا بخدمات الإقراض. تداول "اللولار" بين المصارف، يعني عمليًّا تداول الخسائر، التي لا تعرف المصارف حلًا لها اليوم. فتح الحساب المصرفي أصلًا بات عبئًا على المصرف، إلا إذا اقتصرت أهدافه على تلقي الدولار الطازج من الخارج، أو من السوق الموازية. الشمول المالي لم يعد مصلحة للأفراد أو المصارف أو أي طرف.

عمليًا، باتت المصارف تذهب عمدًا باتجاه سياسات الإقصاء المالي: تقييد تداول الشيكات بالليرة أو "اللولار". منع فتح الحسابات بـ "اللولار". رفع العمولات على حسابات "اللولار" لدفع أصحابها نحو الاستفادة من تعاميم السحوبات التي يصدرها مصرف لبنان، وصولًا إلى إقفال الحسابات الصغيرة. والمجتمع نفسه، لم يعد يرى في المصرف مركزًا ماليًا في إطار تداولاته الماليّة. المصرف، هو ذاك المكان الذي تضطر لزيارته إذا كان لك وديعة عالقة، أو إذا فُرض عليك -لسبب ما- تلقّي حوالة مصرفيّة. وامتداد الأزمة لخمس سنوات، من دون الوصول إلى حل لإعادة هيكلة المصارف، عمّق هذه المشاعر.

للمقيمين أسبابهم للنفور من النظام المصرفي. وللمصارف مصلحة في إبعادهم اليوم، إلا بالنسبة لشريحة صغيرة يمكن توطين رواتبها بالدولار الفريش. الواقع الحالي، نتيجة لتطبيع ظاهرة "المصارف الزومبي"، وتأجيل وضع الحلول الماليّة الملائمة لمعالجة هذه الظاهرة. غير أن توسعة نطاق اقتصاد النقد الورقي، سيكون له نتائج كارثيّة على علاقة لبنان مع الخارج، وخطر اللائحة الرماديّة ليس سوى إحدى هذه النتائج. التقليل من شأن هذا التطوّر، أو تسخيفه، لن يعالج أصل المشكلة: لبنان لا يملك نظامًا ماليًا موثوقًا. وهذه مشكلة.