حاكم "المركزي" سيبقى امبراطورًا: الطائفيّة تمنع الإصلاحات

علي نور الدين
السبت   2024/07/06
داخل مصرف لبنان "الحاكم" هو السلطة الأولى والأخيرة، ولا صوت يعلو فوق صوته (Getty)

يوم أقرّت حكومة ميقاتي خطّتها للتعافي المالي في أيّار 2022، على أساس تفاهمها مع صندوق النقد، احتلّت الإصلاحات "البنيويّة" في مصرف لبنان جزءًا أساسيًا من نصّ الخطّة المكتوبة. كان طرح هذه الإصلاحات يومها مسألة بديهيّة، بالنظر إلى معرفة الجميع بالدور الذي لعبه تضارب المصالح وتركّز الصلاحيّات بيد حاكم مصرف لبنان، في سياق تراكم مسبّبات الأزمة على مدى سنوات طويلة. في جميع القرارات الكارثيّة، مثل الهندسات الماليّة وتمويل التحويلات، لم يكن هناك من يقيّد رياض سلامة. وفي جميع الارتكابات الكبرى، مثل عمولات شركة فوري، لم يكن هناك –داخل المصرف- من يحاسب رياض سلامة. فداخل المصرف، الحاكم هو السلطة الأولى والأخيرة، ولا صوت يعلو فوق صوته.

على هذا الأساس، شكّلت الحكومة منذ أكثر من سنة لجنة حكوميّة، لصياغة التعديلات التي يفترض إدخالها على قانون النقد والتسليف. وهكذا، أنجزت اللجنة الآن المسودّة الأولى من هذه التعديلات، والتي اطلعت عليها "المدن". التعديلات المطروحة لم تعالج أهم مكامن الخلل: تركّز الصلاحيّات بيد حاكم مصرف لبنان. ثمّة خشية دائمة من المساس بالصلاحيّات الماليّة والنقديّة التي يملكها حاكم مصرف لبنان بموجب القانون، وهو ما يتصل بخشية الطوائف من أي تعديل في توازنات القوّة التي تحكم عمل المؤسّسات العامّة.

في تلك المعادلة: المس بصلاحيّات الحاكم، هو مسّ بنطاق قوّة الموقع الماروني المالي الأهم في الدولة.


لا مساس بصلاحيّات الحاكم الإمبراطور
حاكم المصرف في القانون إمبراطور: يرأس المجلس المركزي الذي يضع السياسة النقديّة، وهيئة التحقيق الخاصّة التي تحقّق وتكشف السريّة المصرفيّة، وهيئة الأسواق الماليّة التي تحمي المستثمرين، والهيئة المصرفيّة العليا التي تُحاسب المخالفين. كما لا يمكن إحالة أي مخالفة من لجنة الرقابة على المصارف إلا بإرادة الحاكم. وهو الذي ينظّم ويدير المصرف نفسه، ويعيّن موظفيه، ويحدد صلاحيّات دوائره وأقسامه المختلفة. وبشخطة قلم، يمكن لمُستجد على العمل المصرفي أن يصبح رقمًا صعباً في حاشية الحاكم، على ما رأينا في نماذج فاحت رائحتها بعض حصول الانهيار، وانكشاف العفن الذي ضرب المصرف.

كان يفترض بالتعديلات أن تفضي إلى معالجة هذا الخلل البنيوي، الذي تراكم بفعل مجموعة من التشريعات المجتزأة التي تولت عند محطات زمنيّة مختلفة. وبخلاف الشائع، لم تأتِ هذه الصلاحيّات دفعة واحدة في قانون النقد والتسليف، الذي جرى إقراره عام 1963، بل ولدت تدريجيًا مع تشكيل الهيئات المصرفيّة والماليّة المختلفة. ولو أنّ قانون النقد والتسليف انطوى أساسًا على ثغرات كانت تسمح بتوسّع نطاق صلاحيّات الحاكم داخل المصرف.

المشكلة إذًا هي أن الحاكم: ينظّم ويدير ويراقب ويحاسب في الوقت نفسه. إذا حصل خلل في عمل القطاع المصرفي تحت إدارة وإشراف الحاكم، فعلى الحاكم أن يوافق على إحالة المخالفة من لجنة الرقابة على المصارف. وعلى الحاكم أن يضع المسألة على جدول أعمال هيئة التحقيق الخاصّة، لرفع السريّة المصرفيّة في حال وجود جرائم الماليّة. وعلى الحاكم أيضًا أن يحيل المسألة للهيئة المصرفيّة العليا، للمحاسبة. في ألف باء علم الإدارة العامّة، يُسمّى ذلك تضاربًا في المصالح والصلاحيّات، ويمهّد لكل أشكال الفوضى الإداريّة وصرف النفوذ والإثراء غير المشروع، وهذا ما حصل بالفعل!

وإذا كان المكتوب يُقرأ من عنوانه، فمسودّة مشروع تعديل قانون النقد والتسليف تُقرأ من أسبابها الموجبة، كما صاغتها اللجنة الحكوميّة. في لهجة أقرب إلى تطمين من يعنيهم الأمر، ثمّة عبارة واضحة تبطل فعاليّة كل ما سنقرأه من تعديلات: "...من دون المساس بالهيكليّة الأساسيّة التي تمنح حاكم مصرف لبنان صلاحيّات واستقلاليّة وضمانات لكي يمارس مهامه". هذه الجملة، هي القاعدة التي حكمت كل ما سيلي ذكره من اقتراحات في المسودّة، وهو ما يجعل المطروح بعيدًا عن فكرة الإصلاحات الأساسيّة التي جرى طرحها أساسًا في خطة التعافي المالي.

لا يمكن إغفال البُعد الطائفي في هذا التوجّه. ميقاتي لا يبدو مستعدًا للدخول في معركة تمس بالتوازنات "الميثاقيّة"، خصوصًا إذا كان الأمر يُعنى بصلاحيّة موقع "مسيحي مالي"، وفي المرحلة التي تلي تكريس طائفة أخرى هيمنتها على موقع آخر هو وزارة الماليّة. فوزير الماليّة بات صاحب "توقيع ثالث" يُعطّل التعيينات ويرمي المراسيم في الأدراج ويتحكّم بسقوف الإنفاق في موازنات غب الطلب، فكيف يرضى الموارنة في هذه المرحلة بالتحديد أن يُحد من صلاحيّات الموقع المالي الأوّل؟
الوقت ليس مناسبًا للإصلاح إذًا.


نوايا التصرّف بالذهب
في التعديلات المقترحة على المادّة الثانية من قانون النقد والتسليف، تقترح اللجنة أن تصبح قيمة الليرة مربوطة بالعرض والطلب، وفقًا لآليّة يضعها مصرف لبنان، وبما يحدّد سعر قانوني يُعتمد من قبل الدولة. لا ينص القانون على أي معايير بخصوص هذه الآليّة، وهو ما يعني تشريع الوضع القائم أساسًا: سعر مُعلن من قبل المصرف المركزي، ومنصّة موعودة لم تبصر النور بعد، وآليّات غامضة لشراء وبيع الدولار في السوق. موافقة وزير الماليّة، هي الضابط الوحيد لهذه الآليّة بحسب النص القانوني المُقترح. هنا نعود إلى مسألة التوازن الماروني الشيعي في الشأن المالي والنقدي.

لكنّ ثمة ما يفترض أن نلتفت إليه هنا: هذه الآليّة، يفترض أن تحل مكان المادّة الثانية القديمة، التي كانت تنص على تحديد قيمة الليرة بالذهب الخالص. بهذا المعنى، قطعت المادّة الجديدة المقترحة –وبالنص القانوني- أي علاقة بين احتياطات الذهب الموجودة والجانب المتعلّق بالسياسة النقديّة لمصرف لبنان، ولو أن لبنان لم يعتمد واقعيًا على فكرة ربط قيمة الليرة بالذهب. في هذه الحالة، لم يعد للذهب علاقة بأي ضمانات تتعلّق بقيمة الليرة، وهو ما يتماشى مع الممارسات الشائعة حول أنحاء العالم، التي باتت تُخضع العملات الوطنيّة لعوامل العرض والطلب فقط.

لكن هذه التطوّر يطرح السؤال اليوم عن فكرة وجود احتياطات الذهب في مصرف لبنان، بعد فصلها عن مسألة النقد. الوضعيّة القانونيّة لهذه الاحتياطات، مازالت غامضة إلى حدٍ بعيد. وهذا ما يذكّر ببعض الإجراءات الملتبسة التي جرى اتخاذها داخل مصرف لبنان منذ شباط 2023، والتي حافظت عليها القيادة الجديدة للمصرف، وخصوصًا على مستوى ربط زيادات قيمة الذهب بإطفاء الخسائر المصرفيّة المتراكمة. تلك الإجراءات المُحاسبيّة، باتت تعامل الذهب كقيمة تقابل الإلتزامات لمصلحة المصارف، وهو ما يفرض تبعات قانونيّة على احتياطات المعدن الثمين في المستقبل.


سلطة إصدار النقد
في ما يخص النقد أيضًا، تعطي التعديلات المقترحة مصرف لبنان صلاحيّة طلب إصدار فئات نقديّة جديدة، على أن يحتاج ذلك إلى موافقة مجلس الوزراء واقتراح من وزير الماليّة. كما يمكن إعتماد الآليّة نفسها لمنح الفئات الجديدة القوّة الإبرائيّة، أي القوّة القانونيّة المُلزمة لإطفاء الديون. مع الإشارة إلى أنّ نصوص قانون النقد والتسليف الحاليّة تحدد بوضوح فئات النقد المسموح خلقها من جانب مصرف لبنان، طالما أنّ إصدار النقد هو "امتياز" سيادي تملكه الدولة وحدها، وهي "تمنحه" لمصرف مركزي "تنشئه" (المادّة 10 الحاليّة من قانون النقد والتسليف).

هذا التعديل، سيعطي المصرف المركزي مرونة أكبر بكثير على مستوى تنظيم فئات النقد. إذ سيكون بإمكان المصرف مثلًا أن يصدر فئات نقديّة جديدة بقيمة 500 ألف ليرة لبنانيّة، من دون العودة إلى مجلس النوّاب وتمرير تشريعات جديدة. وفي هذا الجانب، ستزيد هذه التعديلات من الصلاحيّات النقديّة التي يملكها حاكم مصرف لبنان، والتي كان يُفترض تقنينها، إنما ستبقى هذه الصلاحيّات الجديدة مربوطة بتوقيع وزير الماليّة (مجددًا، نعود إلى توازن الموقعين الشيعي الماروني في الشأن المالي).


الشفافيّة في تنظيم مصرف لبنان
بعض البنود المقترحة تحاول إضفاء إصلاحات شكليّة وهامشيّة على نص قانون النقد والتسليف. تعديلات المادّة الثامنة عشر مثلًا تنص على وجوب تمتّع الحاكم بشهادات جامعيّة وخبرة لا تقل عن 15 سنة في الشأن القانونيّ أو المصرفي أو المالي أو الاقتصادي أو التكنولوجي. وهو تعديل جيّد، لكنّه محدود الأثر، طالما أنّ العرف المتبع أساسًا كان يفرض امتلاك الحاكم الحد الأدنى من الخبرة أو المعرفة بأحد هذه الحقول المعرفيّة. ولم يشهد مصرف لبنان أساسًا وجود حاكم لا يملك خبرة من هذا النوع. الأكثر إفادة في هذه التعديلات، هو النص الذي يمنع الحاكم من الترشّح إلى منصب نيابي أو رئاسي أو بلدي أو اختياري أو سياسي بشكل عام، قبل انقضاء سنتين من انتهاء ولايته، وهو ما يمنع الحاكم من التصرّف على أساس مستقبله أو مصلحته الشخصيّة.

مقترح تعديلات المادّة 26، تفرض نشر مقرّرات المجلس المركزي لمصرف لبنان في الجريدة الرسميّة، وهو ما يُعتبر تقدّمًا، بالمقارنة مع الوضع الحالي. لكنّ هذا التعديل يبقى محدود الأثر، لكونه يعطي المجلس -في الوقت نفسه- صلاحيّة اعتبار مقرّر ما بندًا سريًا، من دون وضع معيار لهذه السريّة. وهذا ما يعني نظريًا إمكانيّة امتناع المجلس عن نشر أي مقرّر، أو ربما جميع مقرّرات أي جلسة. كما يُدخل مقترح تعديلات المادّة 28 تغييرات في تركيبة المجلس المركزي للمصرف، عبر أربع خبراء من المستقلين، يعيّنهم مجلس الوزراء.

في خلاصة الأمر، يمكن العثور على بعض التعديلات الطفيفة التي تقيّد من صلاحيّات الحاكم هنا أو هناك، كحال التعديل الذي يسمح لنصف أعضاء المجلس المركزي بطلب اجتماع للمجلس، بدل حصر صلاحيّة الدعوة للاجتماع بالحاكم. غير أنّ هذه التعديلات بمجملها لم تمس بالهيكل العام الإدارة لمصرف لبنان، ولا بالمشاكل البنيويّة الموجودة حاليًا في هذا الهيكل. الحسابات الطائفيّة مازالت حتّى اللحظة هي المعيار، وخصوصًا عند مقاربة التوازن ما بين صلاحيّات الحاكم وصلاحيّات وزير الماليّة. أمّا المعايير الإداريّة المُثلى، فلا مكان لها في بيئة سياسيّة من هذا النوع.