الكتابة قبل أوانها

يعرب العيسى
الخميس   2024/09/12
كتبت فرانسواز ساغان روايتها الشهيرة "صباح الخير أيها الحزن" في السابعة عشرة من عمرها
يتردد هنا وهناك قولٌ لأحدٍ ما، يبدو وكأنه قول مأثور أو مسلمة فيزيائية أو حديثٍ لنبي أو قدسي، وهو يتعلق بضرورة بلوغ الأربعين قبل كتابة رواية. تجري عليه تنويعات تجعله أكثر مصداقية وقبولاً، مثل أنك تستطيع كتابة قصيدة جيدة في الثانية عشرة من العمر، وتأليف قطعة موسيقية عظيمة في الخامسة، والزواج في الحادية عشرة، والانجاب في الثالثة عشرة، والدخول في لائحة فوربس في الرابعة عشرة، وقيادة انقلاب عسكري في الثامنة والعشرين، وإظهار نبوتك في المهد، لكنك لا تستطيع كتابة رواية قبل الأربعين.

لدى أصحاب هذه المقولة الكثير من الأدلة، أحدها أنه لم يسبق لكاتب كبير أن كتب رواية قبل الأربعين. بالطبع كتب كثير من الكتّاب روايات في العشرينات، بل كتبت فرانسواز ساغان روايتها الشهيرة "صباح الخير أيها الحزن" وكانت في السابعة عشرة، لكن في النتيجة تبين أن أحدهما على الأقل غير كبير، الكاتب او الرواية. ورواية ساغان ليس فيها شيء مهم سوى أن العالم أراد وقتها أن يعرف ما يمكن أن تقوله فتاة راسبة في الشهادة الثانوية بعد شهرين من صدور النتائج. وبعض الكتّاب الذين صاروا كباراً في النهاية، يخجلون من رواياتهم المبكرة، يسقطونها من حساباتهم، ويحاولون تمويهها في ذاكرة القرّاء، ويخطئون عمداً في العدّ حين يحسبون رواياتهم، ويتمتون: ستة وأربعة؟؟؟؟ تسعة. أجل تسعة.

سألني كاتب شاب في ندوة أدبية: ما العمر الذي يجب أن يصل إليه الإنسان قبل ان يفكر بكتابة رواية؟ فأجبته: لا أعرف أحداً وصل لذلك العمر. الكتّاب يكتبون الروايات بدافع الجرأة، الوقاحة، جنون العظَمة، أو بمسٍّ منه، أما لأنهم نضجوا إلى الدرجة الكافية، فلا أحد فعلها من قبل. 

من حيث المبدأ مسألة العمر لا تتعلق بعدد السنوات، فعلى الكاتب ـ كما النقّاش والطبيب والممثل ـ أن يقدّم أفضل ما لديه، والرواية صنعة تدور حول فهم البشر، ولفعل ذلك عليه أن يعرف أقصى ما يستطيع عن الدنيا، وهذه المعرفة لا يمكن أن تكتمل إلا بتجربة الاحتضار. 
كيف يمكننا ادّعاء معرفة الحياة، ونحن لم نجرب الموت بعد؟ آه أعرف الحياة فأظن أني أعرف الحياة؟ يا للتبجح! 

ولأحمد الصافي النجفي بيتان عظيمان يقول فيهما:
أحاول أن أموت بغير وعيٍ      مخافة رؤية الأمر الخطير
ولكنّي أخاف عليّ نقصاً         بحرماني من الدرس الأخير. 

وكان بورخيس يعتقد أن كل ما يجري في العالم يجري كي ينتهي في كتاب. وماذا عن الكتب ذاتها؟ هي أشياء تجري في العالم، فإلى أين ستنتهي إذاً؟ ستنتهي في كتب أخرى، أفضل وأكثف، وأقل ثرثرة. وتلك بدورها ستنتهي في كتب أكثر كثافة، حتى نصل للكتاب النهائي، الكتاب الواحد الذي يجمع كل الحكاية البشرية، وقتها يمكنني الإجابة على السؤال، وتحديد العمر المناسب لكتابة رواية.

بورخيس ذاته له قصيدة اسمها "الإسكندرية 641 ميلادية"، مدح فيها عمر بن الخطاب وشكره لأنه أمر عمرو بن العاص بحرق مكتبة الإسكندرية، وأتاح لنا أن نعيد كتابة تلك الكتب كلها من جديد. 

"أنا عمر الذي أخضع الفرس
وفرض الإسلام على امتداد الأرض
آمر جنودي بأن يحرقوا هذه المكتبة الغزيرة
التي لن تندثر
والحمد لله الذي لا يأخذه نوم 
ولنبيه محمد كذلك". 

تتردد نغمة طريفة في السنوات الأخيرة تبشّر (تبشر أم تنذر؟) بأن زمن الرواية انتهى، أو يكاد، وتسوق أدلة كثيرة، بعضها منطقي ومبني على إحصاءات ولوائح مبيعات، واستطلاعات رأي. ويلاحظ أصحاب هذه النظرية أن الكتب الأكثر مبيعاً في السنوات الأخيرة ليست روايات، بل هي كتب معرفية تدور حول موضوعات علمية واجتماعية وأنثروبولوجية.

لو أخذت أمثلة من الكتب غير الروائية التي اعتلت لوائحم الأكثر قراءة لفترة أو أخرى، خلال السنوات الماضية، كتاب "نهاية كل شيء" لكريس إمبي، أو "العاقل" ليوفال نوح هراري، أو "حياتي" مذكرات بيل كلينتون، "لغة الإله" لفرانسيس كولنز... وقبل ذلك كتب مثل "أسلحة فولاذ جراثيم" لجارد دايموند، و"الجينوم السيرة الذاتية للنوع البشري" لمات ريدلي وجميع كتب كارل ساغان وريتشارد داوكنز... أو كتب أقل شهرة مثل "موجز تاريخ الأرداف" و"ثقافة القهوة" و"شاشة العالم"... لوجدت أنها جميعاً تلتقي بصفات مشتركة، فهي روايات تقريباً، وكتّابها تجاوزا الأربعين أو اقتربوا منها كثيراً.

حين قرأت كلاً من هذه الكتب، أصابني شعور ملتبس، فهي روايات ينقصها شيء ما؟ زاد فيها شيء ما؟ ليس في الروايات شيء ليس فيها، لكن فيها شيء غير موجود في الروايات، وتحتاجه الروايات بشدة. وهو فهم أفضل قليلاً للموت. فكونها تحكي الدنيا من وجهة النظر العلوم، وفي العلوم مسّ من القسوة، يجعل المشتغلين بها مدركين لحتمية موت كل شيء، بل واعين لكيفية حدوث ذلك وسببه.

عملياً نحن لا نكتب كتباً الآن، نحن نخمّن، نكتب مسودات، نجمعها لروائي سيأتي في زمن ما ليستفيد قليلاً من هذه الملاحظات والتخمينات. ويكتب لنا الرواية التي تحتاجها، وعندها قد لا يكون في الأربعين، بل في أي عمر يريد.

لأن المسألة على ما يبدو ليست عمر شخص، بل عمر نوع. ومَن يحتاج النضج ليس الكاتب، بل العقل البشري برمته. فنحن البشر بدأنا باستخدام هذه الأداة المعقدة منذ زمن قريب للغاية، فقبل بضعة آلاف من السنين فقط، اخترعنا اللغة، ثم بدأنا باستخدامها لقصّ الحكايات، وهي مهارة صعبة يحتاج اتقانها بضعة آلاف أخرى من السنين. وربما ستنجح البشرية في اختصار الوقت لبضع مئات، إذا ما وُفّقت بإنجاب المزيد من الروائيين مثل ديستويفسكي والطبري، لأن نماذج كهذه يمكن لها أن تَختصر في جيل واحد، دوراتٍ عديدة من سباق التتابع الذي نسلّم فيه تلك العصا السحرية من واحد لواحد.

إذاً، هل يمكن كتابة رواية جيدة قبل الأربعين؟ يمكن طبعاً، إذا وافقتم أنها أربعين ألف سنة من ولادة اللغة في العقل البشري. وهل انتهت الرواية أو تكاد؟ سأستعير هنا جواباً من عالم الكيمياء يصلح تماماً لعالم الرواية. ففي حفلة لتكريم عالم كيمياء، سأله صحافي: هل انتهى عِلم الكيمياء. فأجاب: عملياً نحن انتهينا من معرفة العناصر الموجودة في الطبيعة، وسنبدأ الآن بمعرفة العناصر الممكنة في الطبيعة.