"براءة".. حكايات الموت الإسرائيلي فداءً لدولة الإبادة

محمد صبحي
الأربعاء   2024/09/11
يروي الفيلم حكاية قوية ومروعة تستكشف الجانب المظلم للثقافة العسكرية الإسرائيلية
منذ 2010 حتى 2020، سُجّلت 5380 حالة انتحار في صفوف المجتمع الإسرائيلي، بمعدل 500 انتحار كل عام تقريباً، منها 100 انتحار سنوياً في صفوف الجيش الإسرائيلي. وتظهر البيانات أن 60% من حالات الانتحار سجلت لدى الفئة العمرية من المرحلة الثانوية إلى عمر 26 عاماً، وهي الفترات التي يتم فيها التأهيل للانخراط في الجيش أو فترة الخدمة العسكرية الإجبارية وكذلك فترة الخدمة بصفوف جيش الاحتياط. يحاول الجيش الإسرائيلي فرض سياسة تعتيم على حوادث الانتحار في صفوف جنوده وضباطه، إلأ أنه منذ "طوفان الأقصى" والحرب التالية عليه، ومع تزايد حالات الانتحار بين صفوف المجندين والضباط، تكشّفت ظاهرة جديدة غير مسبوقة: الجنود والضباط ينتحرون خلال الحرب، بينما جرت العادة أن تجري عمليات الانتحار بعد أن ينتهي القتال، حيث ترافقهم صور القتل والدمار الجنود في حياتهم المدنية، وتتحوّل إلى كوابيس مرعبة. ناقوس إنذار لا يبدو أن الدولة الصهيونية ستهتم به كثيراً في خضم إكمالها مهمتها المقدسة في إبادة الفلسطينيين كي تحظى بوجودها السعيد والهانئ الوديع في أرض الميعاد.

"شنّ الحرب، أي حرب، شأن رواية وسرد"، بهذه الكلمات يفتتح المخرج الإسرائيلي غاي دافيدي، فيلمه الوثائقي "براءة"، الذي عُرض للمرة الأولى عالمياً قبل عامين ضمن مهرجان البندقية السينمائي الدولي كجزء من قسم "أوريزونتي"، لكنه يبقى، خصوصاً في أجواء حرب الإبادة الإسرئيلية الجارية في فلسطين، راهناً وحيّاً ومُلحّاً.

تسويق القوة
القصّة الجيدة أمر بالغ الأهمية لإضفاء الشرعية على استخدام القوة العسكرية. ولهذا السبب تحتاج الجيوش إلى تسويق قواها، وتعتبر إسرائيل دولة نموذجية في الترويج لمشاريعها العسكرية. يتابع دافيدي: "لقد نجحنا في استعمارنا واحتلالنا وتوسّعنا، وأصبحنا أقوى وأكثر قبولاً بين الأمم. إن تاريخنا كيهود مضطهدين، وديموقراطيتنا المستنيرة، كلاهما قيد الاستخدام في مجموعة علاقاتنا العامة القوية. لكن قبل أن نعرض قصّتنا على العالم، علينا أن نعرضها على أطفالنا. ومع ازدهار الفساد الأخلاقي المرتبط بالفصل العنصري، يصبح تجنّب الخدمة تهديداً. سنقدّم امتيازات لبعض الشباب الصغير، ولأغلبهم سنبيع وعوداً وهمية. يُختار كل طفل ليخدم بضغطٍ يمكن تحمّله وبقدرٍ مناسب من التعرّض للعنف".

يحكي فيلم "براءة" قصة أطفال/شباب قاوموا التجنيد لكنهم استسلموا. لم تُسرد قصصهم مطلقاً لأنهم ماتوا أثناء خدمتهم. ومن خلال سردية مستوحاة من يومياتهم المؤرّقة والأليمة، يصوّر الفيلم الاضطرابات الداخلية التي يعيشونها، عبر نسجه صوراً عسكرية مباشرة، ولحظات أساسية من الطفولة حتى التجنيد، ومقاطع فيديو منزلية للجنود المتوفين الذين أخرست قصصهم واعتبرتها الدولة الصهيونية تهديداً وطنياً.

يروي دافيدي قصة قوية ومروّعة تستكشف الجانب المظلم للثقافة العسكرية الإسرائيلية. يتتبع الفيلم جنوداً شباباً يقاومون التجنيد، لكنهم في النهاية يستسلمون لضغوط الخدمة. عبر مزيجه الحميمي والقاسي، يكشف الفيلم المأزق الأخلاقي الذي يسود المجتمع الإسرائيلي. ينسج دافيدي بمهارة ذكريات الطفولة ومقاطع الفيديو المنزلية للجنود المتوفين ليخلق صورة مؤثرة لبراءة مفقودة. وفي ذلك يقدّم أيضاً نقداً لاذعاً للشبكة العسكرية الإسرائيلية المعقَّدة وتأثيرها المدمّر على الشباب الواقعين في قبضتها.


غياب البراءة لا يعني ذنباً، بل يعني غياب الطفولة، وغياب المساحة التي يمكن أن توجد فيها البراءة. اختار غاي دافيدي "براءة" عنواناً لفيلمه، ويمكن للقارئ/المتفرج أن يشعر ويرى علامة استفهام غير مرئية. ربما علامة تعجّب. عنوان الفيلم ليس بياناً، بل هزّة. أي معنى يمكن أن يكون للبراءة في بلدٍ يُطلب من أطفاله في رياض الأطفال مراراً وتكراراً رسم الدبابات والبنادق والجنود ومشاهد الحرب؟ في إسرائيل، لا طفولة. لا صفحات فارغة، ولا حتى خربشات غامضة. لا تُكتب الحياة بحبرٍ قابل للمسح، بل بقلم التحديد الدائم.

المحرقة في المدرسة
في المدارس، توصف المحارق النازية بالصور، وتوثّق الكاميرا الأفواه المفتوحة في رياض الأطفال. مرحباً بكم في الصفّ الأول! يسيرون بشكل مرح في دائرة ويتدرّبون على الأغاني الوطنية حول إسرائيل. التحضير لحياتهم؟ الموسيقى في الفيلم مشوَّهة، والرعب يغذّيه الواقع. والبعض يغطي آذانه. "لا تنهار"، كتب رون، الذي اعتقد ذات يوم أن العالم مفتوح للجميع. أصبح الصبي نباتياً لأن الحيوانات يجب أن تكون بخير أيضاً.

زوهار طفل صغير يكافح. لا يريد رسم الدبابات والجنود. إنه في غير مكانه في روضة الأطفال، وهو على خلاف مع المحيطين به. لا يفهم، فهو ما زال طفلاً. ومع ذلك، يمكنه أن يخبرك بما يحدث إذا لمس جدار الفصل العنصري الذي يرسم خطاً بين الخير (المفترض) والشرّ (المزعوم)، بالرغم من أن أصدقائه يعيشون في غزة. يعرف زوهار أنه من الخطأ رسم كل تلك الصور، لتشجيعه على التماهي مع الحرب والقتل. زوهار فتى لا يُنسى.

مثلما لا يُنسى آدم الذي اخترق شرّ الإنسان في سن مبكرة. يقول أمام الكاميرا: "البشر لديهم رغبة ملحة في التدمير". نشاهد تسجيلاً قديماً، والدة آدم تصوّره وتطرح عليه أسئلة حول ما يودّ أن يفعله في المستقبل. يريد العيش مع قبائل في أفريقيا أو أستراليا لأنهم "لا يعيشون حياة بائسة". لا يُعرف عمر آدم في هذا التسجيل على وجه التحديد. 12، ربما؟ لا يبدو وكأنه طفل سعيد. إنه مفكّر، قلق، مضطرب. يدرك ما ينتظره: التجنيد، القتل القانوني، وربما القتل قبل أن تبدأ حياته حقاً.

كان على آدم أيضاً أن يرسم تلك الصور في روضة الأطفال. كان عليه أيضاً أن يرى الأسلحة ويلمسها عندما كان في الرابعة أو الخامسة من عمره. لقد تعلّم أيضاً في سن مبكرة كيف يبدو اللغم الأرضي. تلقين الدولة، الذي من المفترض أن يحوّل الأطفال إلى جيلٍ جديد من الجنود الأبطال، كان له تأثير معاكس عليه.

ألعاب الحرب
تتقاطع التسلسلات من مقاطع الفيديو المنزلية مع الصور الحديثة. هناك نوع ما من المعارض حيث يمكن للأطفال وضع أيديهم على بنادق حقيقية، ودبابات حقيقية، حيث يمكنهم ممارسة ألعاب الحرب. يأخذهم الآباء بفخر إلى هناك ويدعمون محو براءة أطفالهم. ليسوا مَن يخلقون الفقاعات، وليسوا مَن يحاولون التأكّد من أن أطفالهم يمكنهم البقاء أطفالاً لأطول فترة ممكنة. إنما يساعد الآباء على المحو، والنفي، والإيذاء.

على صعيد آخر، يكشف الفيلم غياب أي دعم في إسرائيل للمنظمات والحركات الناشطة في دعم للشباب الذين يفكّرون في تجنّب الخدمة العسكرية، إذ أن أي تشجيع للتهرّب العسكري يعدّ غير قانوني. ولهذا السبب، تعاني جمعية "نيو بروفايل"، كونها المنظمة الوحيدة التي تساعد الشباب عندما يضّطرون إلى الخدمة العسكرية. "نيو بروفايل" هي حركة نسوية ومناهضة للنزعة العسكرية تأسّست العام 1998 وتعتقد أن النزعة العسكرية - المتجذّرة بعمق في المجتمع الإسرائيلي - تجعل المجتمع أكثر عنفاً وعنصرية وتمييزاً على أساس الجنس.

منذ إنشائها، رافقت شبكة الاستشارة المدعومة من المتطوعين التابعة لـ"نيو بروفايل" أكثر من 20 ألف شاب اختاروا بشكل مستقل عدم الخدمة في الجيش الإسرائيلي من خلال الحصول على إعفاء عسكري من خلال الدعم المستمر والمساعدة القانونية المجانية والموارد الإضافية والمعلومات. يعاني العديد من الشباب الذين يطلبون دعمهم من مواقف عاطفية/عقلية صعبة بسبب تجاربهم مع النظام العسكري. وقد تعرّضت "نيو بروفايل" للاضطهاد من قبل السلطات الإسرائيلية في مناسبات متعددة، حيث جرى اعتقال أعضائها ومصادرة معداتهم. ومع ذلك، تواصل الحركة عملها وتعتمد على الدعم السخي من المانحين لمساعدتها على مواصلة مهمتها الثمينة.

مجتمع الصدمة
يتعيّن على الرجال الخدمة لمدة ثلاث سنوات في الجيش الإسرائيلي، والنساء يخدمن سنتَين. إسرائيل في حالة طوارئ دائمة منذ تأسيسها العام 1948. إنها دولة لا ينبغي لنا أن نعتبرها قوة استعمارية حديثة فحسب، أو دولة فصل عنصري، بل علينا النظر إليها باعتبارها جماعة/مجتمع تعاني صدمة شديدة، دولة مبنية على الصدمة. لقد بُني كل شيء حول المحرقة، وحول قتل اليهود، وهناك خوف مفهوم من التعرّض لهجوم مرة أخرى. وهذا ما يحدث لكل فرد مصاب بصدمة نفسية أيضاً: خوف غير عقلاني، وقناعة بأن كل شيء وكل شخص من حولك يريد أذيتك. تقوم ببناء جدران عقلية وعاطفية وجسدية لحمايتك، وتهاجم حتى أدنى تهديد (متصوَّر) موجّه إليك. في النهاية، تجعل الحياة مستحيلة، ليس لنفسك فقط، بل لكل من يعيش من حولك. تصبح خطراً على نفسك وعلى الآخرين. بدلاً من زيادة خطر موتك على يد شخص ما، فإنك تزيد بشكل مصطنع وأسي من خطر قتلك شخصاً ما. ولا شيء يوضح ذلك أفضّل من الإبادة الجماعية المستمرة في غزة وكامل فلسطين.

يطلق الفيلم اتهاماً شديد القسوة للأيديولوجية السائدة في إسرائيل، والتي تقوم على تمجيد النزعة القتالية واستخدام الأسلحة، من خلال اللجوء إلى المذكرات الخاصة لبعض الشباب العسكريين الذين اختاروا الانتحار رفضاً لتلك الحياة. عمل تخريبي، مؤلم، وموضوعي للغاية. فيلم صادق عن إسرائيل، حول حقيقتها كآلة حرب عملاقة سفّاحة مجرمة، حول الحروب المستمرة في دولة الاحتلال وما يفعله ذلك بمجتمعها.