"السبعة الكبار في الموسيقى العربيّة المعاصرة"... قصّة هذا الكتاب

المدن - ثقافة
الإثنين   2024/07/08
أم كلثوم
يصدر قريباً عن دار نلسن الطبعة الثالثة من كتاب "السبعة الكبار في الموسيقى العربيّة المعاصرة" لفكتور سحاب، هنا مقدمتها: 

في مسيرتي للدراسة الأكاديميّة في التاريخ، كنت أنوي لنيل درجة الماجستير، وضع دراسة لمائة سنة من تاريخ المسيحيّة الأولى (من 50 ق. م. إلى 50 م.)، من أجل فهم ظروف عصر السيّد المسيح التاريخيّة والسياسيّة والثقافيّة والاقتصادية. فلما وُضِعتُ في الجامعة تحت إشراف أستاذٍ حاول ليّ ذراعي لأسبابه العقائديّة الخاصة، ورفضَ توجُّهي العلميّ نحو الموضوع، تحوّلتُ إلى دراسة السنوات المائة التي سبقت ظهور الإسلام، في شبه الجزيرة العربيّة. وهكذا بدأتُ أبحاثي، تحت عنوان: إيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف. فلما توسّع البحث في هذا الموضوع الهام، نصحني أحد الأساتذة في الجامعة اللبنانية، أن أترك الموضوع هذا لأطروحة الدكتوراه، وأن أتحوّل إلى موضوع آخر لأطروحة الماجستير.

كنت في تلك الأثناء (ثمانينيّات القرن الماضي) قد أخذتُ في كتابة مقالاتٍ في الموسيقى العربيّة، بدأَتْ بمقالةٍ يوم وفاة الموسيقار الكبير رياض السنباطي. ثم توالت المقالات، والأبحاث التاريخيّة في الموسيقى العربيّة، بناءً على شغفنا منذ الطفولة في بيت والديّ، باقتناء أسباب السماع، على مستوىً شبهِ محترف. فسألتُ المسؤولين في الجامعة، وكانت المرحومة الدكتورة زاهية قدّورة يومذاك مديرة قسم التاريخ في كلية آداب الجامعة اللبنانية. وحين طرحتُ عليها فكرة كتابة: "السبعة الكبار في الموسيقى العربيّة المعاصرة"، رحبَت رحمها الله، بحماسة، لكون ذلك "حدثاً في أطروحات التاريخ في الجامعة اللبنانية"، على قولها، لأنها أول رسالة جامعيّة في تاريخ الفنون فيها. وهكذا كان.

حين انكببتُ على العمل البحثيّ الأكاديميّ الجاد، كان عليّ أن أدقّق في خياراتي، على أن أستبعد المزاج الشخصيّ في ذلك ما أمكن. فوضعتُ لنفسي حدوداً للبحث، تقوم على مقاييسَ علميّةٍ دقيقة. فاستقرّ قراري أخيراً على ما يلي: في القرن التاسع عشر كان الغناء والموسيقى العربيّين يتّبعان أنواعاً وأشكالاً في التلحين، وأنماطاً في الغناء؛ فلما أهلّ القرن العشرون، أحدثَ عددٌ من الموسيقيّين والمغنّين والمغنيات العرب تطويراً جذرياً: 1- في المضمون الموسيقيّ؛ 2- في الأنواع والأشكال التلحينيّة؛ 3- في أسلوب الغناء. ولا بد إذن من أن نحصيَ هؤلاء الذين أحدثوا هذا التغيير، ونفصلهم عن الذين تبعوهم من الملحنين والمغنين والمغنيات، الذين اعتمدوا أساليبهم، تلحيناً وغناءً. وقد أوضحتُ هذا الخيار في مقدمة أطروحتي، لأفسر سبب اختياري هؤلاء السبعة، مع ان آخرين كثراً يستحقون الدراسة في فنهم وغنائهم ولا شك، لكنهم لحقوا بهؤلاء السبعة الأوائل، ولم يزيدوا عليهم تطويراً ذا شأن لا في فلسفة المضمون الموسيقي، ولا في أنواع التلحين وأشكاله، ولا في أساليب الغناء؛ على الرغم من أن إنتاجهم الموسيقي والغنائي احتل مرتبة محترمة في تاريخ موسيقانا العربيّة، وكان لنتاجهم وزنٌ مهمٌ في ذلك التاريخ من القرن العشرين. وقد شرحتُ في أطروحتي هذه أين ومتى وكيف بدّل السبعة الأوائل ما كان من أمر القرن التاسع عشر، ليقدّموا إلينا الجديد في القرن العشرين، الذي كانوا هم صانعي التغيير فيه.

أقول هذا تفسيراً لخياري، بعدما أمطرني كثيرون من محبي الموسيقى العربيّة، بأسئلة من قبيل: لماذا سبعة، لا ثمانية أو عشرة، ولماذا أم كلثوم وأسمهان، وهما ليستا ملحنتَين، بل مغنيّتان.

لم يقتصر إمطاري بالأسئلة، على هذا، بل كان بعض "الغاضبين" يطرحون الشكوك في خياراتي، من باب آخر، وهو أنني أهملت الحركة الموسيقيّة في لبنان على الخصوص، وأقطابها، وهم في رأيي يستحقون ولا شك دراسة نتاجهم التاريخي وإضافاتهم إلى الموسيقى العربيّة المعاصرة.

وأعترف بأن هذا "الغضب" كان بنّاءً من وجهة نظري، لأنه حفزني على دراسة ما يميّز هذا النتاج اللبناني، الذي احتل مكانة مرموقة في تاريخنا الفني في القرن العشرين. وهكذا وسّعت نظرتي الأكاديميّة الناظرة في الموسيقى العربيّة الحديثة، لتشمل ما فعله كبارنا في لبنان، وتبيّن لي أمر أعتزّ في أنني من أوائل من أخذوا يلفتون النظر إليه؛ وهو المنظار الأنثروبولوجي في حسم هذه القضيّة.


فما جرى في مصر مع السبعة الكبار، كان يَدرُج ضمن سياق الموسيقى "الحَضَريّة" أو "المَدَنيّة" العربيّة، التي تستند في جذورها إلى تجويد القرآن الكريم والتواشيح والأنواع الغنائيّة المتداولة في كل رقعة العالم العربي على امتدادها: الموشحات والأدوار والقصائد والطقاطيق والمونولوجات والمواويل، وما يلازمها من معزوفات، مثل الدولاب والتحميلة والبشرف والسماعي واللونغا. أما الأسس التي قامت عليها النهضة الموسيقيّة العربيّة في لبنان، بين عامي 1950 و1975، على وجه التقريب، فإنها أسس جذورها "ريفيّة" وليست "حَضَريّة". وتمتد جذورها في تربة ما يغنّيه أبناء الأرياف الشاميّة ويرقصونه، في لبنان وسورية وفلسطين والأردن. وقد أصدرتُ بناءً على رؤيتي هذه كتب: وديع الصافي، ثم: زكي ناصيف الموهوب العالِم، ثم: الشحرورة صباح نجمة النهضتين المصريّة واللبنانيّة. 

ومع اعترافي بأن أوجه الاعتراض التي قامت في وجهي حين نشرت "السبعة الكبار" عام 1987، ثم في طبعته الثانية عام 2001، كانت مفيدة لي في لفت نظري إلى هذه الناحية في الموسيقى اللبنانيّة العربية؛ إلا أن لي مع اعترافي، اعتراضي على من يحزنون لأنني لم أتناول بالدراسة موسيقيّين كباراً مثل محمد فوزي وفريد الأطرش وسيّد مكاوي ومحمد الموجي وكمال الطويل وحليم الرومي وفليمون وهبي، وغيرهم.

ويقوم اعتراضي على أساس أنني بالطبع لست عائقاً دون أن يحظى هؤلاء الموسيقيّون الذين "ظلمتُهُم"، بما يستحقون من دراسة، بل انني سأكون من أول المرحبين، لو قام غيرنا من الباحثين الجادّين، وكتبوا أطروحات علميّة أكاديميّة في كل مَن يستحق مِن موسيقيّينا، لأنني في الأساس، اتجهتُ هذا الاتجاه في كتابة التاريخ الموسيقي، لا لأسباب شخصيّة أو مزاجيّة أو علاقة ما بهذا الموسيقي أو ذاك، بل لأنني مؤمن أن "التراث ضروري". لقد أصدرتُ في هذا الشأن كتابي "ضرورة التراث" عام 1984، انطلاقاً من أننا لا ننظر إلى عروبتنا من منطلق عنصريّ أو إثنيّ أو طائفيّ، كما يفعل عدوّنا، بل أرى، مثلما كان الجاحظ يرى، أن العربيّ هو المتكلّم بالعربيّة. وإنني أؤمن بأن التراث مِلاطٌ يشد أجزاء الأمة بعضها إلى البعض. وهذا ينطبق على الموسيقى. فكون أربعمائة مليون شخص يستمعون إلى محمّد عبد الوهّاب وأم كلثوم والآخرين، يجعلهم عرباً معزّزةً عروبتهم بجذورٍ ثقافيّةٍ تَغِلُ في أعماق وعيهم ولاوعيهم البشري لتربطهم بمن يشاركهم في هذه الجذور بتلك الرابطة الحضاريّة المتينة، رابطة الانتماء.

أخيراً، أرجو أكثر ما أرجوه، أن أكون قد خدمتُ بهذا الكتاب، وأدّيتُ قسطاً من واجبي حيال تراثنا العظيم، وأمددت القارئ العربي، من جيلنا وأجيالنا الآتية بما يوفر أسباباً، لا للفخار بما آتاه الأولون فقط، بل للاحتفاظ بما بناه هؤلاء الأولون، من أجل البناء عليه ما يعطي الحفدة، بعد الأبناء، ما يفخرون به وما يلتفون من حوله، تراثاً موحَّداً وموحِّداً في آن معاً.

ڤكتور سحّاب
8/12/2022