ذاكرة بعلبك الثقافية... بين العزلة الشبحية وجحيم القصف الاسرائيلي

محمد حجيري
الأحد   2024/11/10
قبل الخراب
تحطّم مقتنيات وزجاج وأبواب أوتيل بالميرا في مدينة الشمس، جراء قصف الطيران الحربي الاسرائيلي مرآب القلعة الرومانية التاريخية، وذِكر الأسماء البارزة التي نزلت في الأوتيل على مدى عقود، أعادا التذكير بصورة المدينة الزاهية، الوامضة، قبل الحرب الأهلية (1975 – 1990)، في مقابل ترهلها منذ الثمانينات وخسارتها جزءاً كبيراً من تنوعها وحارتها المسيحية وركائزها وطبقتها الوسطى وعلمانييها.

لم تستعد مدينة جوبتير وباخوس وحجر الحبلى حضورها بعد اتفاق الطائف و"السلم البارد"، صارت بين فكي أسنان المناوشات والعراضات والبيارق والطرق الايديولوجية وصيت الخروج على القانون والقيل والقال، وباتت مهرجاناتها الدولية في قلعتها كأنها في جزيرة ومعزولة عنها. 
أبرز مدن الشرق قتلت كوزموبوليتيتها إما بسبب سياسة الأنظمة التوتاليتارية الفاتكة والحاقدة، أو بسبب الحروب الأهلية العبثية الطائشة. وبعلبك كانت بين توتاليتاريا الواقع وتوتاليتاريا السلاح المتفلت. والتقارير الإخبارية والصحافية حول فندق بالميرا بعض القصف، انتبهت إلى ذاكرته الذهبية وتاريخيته، إذ شُيّد على يد المهندس اليوناني ميمكاليس باركلي في عام 1872 قبل أن يشتريه أمين الآثار القديمة في بعلبك، ميخائيل موسى ألوف، واستقبل أسماء سياسية وأدبية وفنية (شارل ديغول، اتاتورك، نينا سيمون، أم كلثوم، جان كوكتو، فيروز، عمر الأنسي...)، وقد تركتْ هذه الأسماء تواقيع في سجلاته أو لوحات على جدارن غرفه. وكلها عناصر كانت ميزة للمدينة وافتقدتها تباعاً، فخلال الثلاثين أو الأربعين سنة الماضية  كان من الصعب جداً أن تجد أجنبياً أو لبنانياً يبحث عن الاستثمار في بعلبك، وسلالة آل ألوف تلاشت أو انقرضت، والأوتيل الذي كان أيقونة المدينة العمرانية، بات يعيش في السنوات في ما يشبه العزلة الشبحية كما وصفه أحد الزائرين الأجانب.

(شرفة بالميرا 1975 تصوير وضاح فارس)

وتتبُّع المعطيات وقصصات الصحف القديمة ومسار المهرجانات وبرامجها ونجومها، ينبه المرء جيداً إلى الفجوة الهائلة التي تعيشها المدينة، وإلى كمية الضربات التي تلقتها، سواء من "الاختلال الاجتماعي" أو "الترييف" أو بسبب الأسلمة وصعود الإسلام الايراني، والآن الضربة الجحيمية من الطيران الحربي الاسرائيلي الذي يسعى إلى محو الذاكرة الثقافية اللبنانية. 
بين صورة بعلبك في الأمس وصورتها اليوم، يبدو كأننا انقلبنا رأساً على عقب. وفي خضم الهمجية الإسرائيلية والخراب، غاية المرء النجاة بأقل خسائر ممكنة. لكن تحطم مقتنيات أوتيل فتح شهيتنا على الماضي في ظل رعب الحاضر. سيرة واحدة لضيف من ضيوف بالميرا ومهرجانات بعلبك، تبين أنّ لبنان كان في حياة مختلفة ونسيج اجتماعي مختلف، وتوجهات سياسية وثقافية وشبابية مختلفة.

جاء الشاعر الفرنسي لْويس أراغون (1897- 1982) إلى لبنان عشيّة الحرب الأهليّة. استقبله في مطار بيروت الشاعر جورج شحادة ورئيسة مهرجانات بعلبك آنذاك مي عريضة. نزل في أوتيل بالميرا، وهو أتى كي يشاهد عرض مسرحيته "مجنون إِلْسَا" بإِخراج آلان فيرنر، وكوريغرافيا فيليكس بْلاسْكا، وموسيقى باتريس مسترال، في عرضَين: الخميس 18 والسبت 20 تموز/يوليو 1974.
في مهرجانات بعلبك (في دورتها التاسعة عشْرة)، تحوّل نصّ أراغون "مجنون إلسا" إلى احتفاليّة مشهديّة تحكي من خلال الكلمات والموسيقى والرقص والإيقاع حكايتين اثنتين: الأولى، سقوط غرناطة قبل أسابيع قليلة من بداية رحلة كريستوف كولومبس إلى أميركا، والثانية، حكاية "مجنون ليلى" التي ترد فيها عبارة أراغون "لقد سيطر الرجل على المرأة بفعل قوته الجسدية، فحولها إلى عبدة. لكن الأمور تغيرت الآن. بيد أن التغيير لم يشمل العلاقة بين الرجل والمرأة. ولهذا لا شك أن الغد سيحمل للرجال عناء كبيراً. وبهذا ستكون المرأة قد حققت انتقامها".


كان للأحداث سردياتها وروابطها، كان للحدث الفنيّ مكانته ورحيقه وطرفته وناسه ومجتمعه ومريديه. كتب الشاعر أنسي الحاج في خواتمه أنه حين جاء أراغون صيف 1974 إلى بعلبك لحضور عرض "مجنون السا" انعقدت صداقة بينه وبين طلال حيدر. ليس هناك أفضل من طلال عيناً ينظر بها الزائر الأجنبي إلى بلادنا أو لساناً يتوسّط بينه وبين الآخرين. وذات ساعة طلب ممثّلون للحزب الشيوعي في البقاع من الشاعر اللبناني أن يجمعهم بالشاعر الضيف عضو اللجنة المركزيّة للحزب الشيوعي الفرنسي ومدير جريدة "لي ليتر فرانسيز" الأدبيّة الأسبوعيّة الحاملة أفكار الحزب وأقلامه، وانعقد اللقاء في مقهى راس العين. بعد التعارف رغب أحد رجال الوفد من طلال حيدر أن يسأل أراغون ماذا يتمنّى للحزب الشيوعي اللبناني لمناسبة اليوبيل الخمسين لتأسيسه، فطرح طلال السؤال مترجماً على شاعر السا. أطرقَ أراغون قليلاً ثم مرّ بنظره على الحاضرين وقال: "لا شيء.. أن تصيرَ الكبّة أطيب والعَرَق ألذّ".
وعندما ترجم طلال الجواب للحضور ضحكوا وألحّوا قائلين له: "بشرفك، اسألو عن جدّ". طبعاً رفض طلال ونصح لهم أن يكتفوا بهذا القَدْر...
من خلال العودة إلى ذاكرة بعلبك العمرانية والثقافية، يتظهر أن المدينة تعيش بين بشاعة آفات الأمر الوقع أو ما تسميه الكاتبة ليزا وايدن "السيطرة العامة"، وجحيم نار الإحتلال وبارودة.