أي ثقافة تأتي وسط هذا الخراب؟
العلاقة بين السياسي والثقافي، لا تحتاج لتحليل وتفكيك، بل يمكن النظر صوبها من ناحية الاهتمام، وهذا أقل الأمور إثارة للمشاكل، لكن المفارقة أننا في سوريا الأسدية، وكذلك في البلاد الأخرى المبتلاة بالوباء نفسه، لم نكن نستطيع تجنب الأذى، في حال قصرنا اهتمامنا على هذه الصفحات في الصحافة، أو قررنا أن نعمل بالصحافة الثقافية دون غيرها. بل غالباً ما كان ينظر إلينا أمنياً على أننا مهتمين بالسياسة! وأن الاستتار بالحديث عن الشعر والرواية والمسرح والسينما، سينتهي إلى الحديث بالفلسفة، وفي هذا الاستغراق، لن يستطيع المرء كبح نفسه من انزلاقه شيئاً فشيئاً نحو الحديث عن أشياء أخرى تدفعك نحوها الأفكار "الفاجرة"!
الانشغال بالثقافي وبكل ما يتضمنه من قضايا، خلق لدى الكثيرين وهماً، عن القدرة على عزل أنفسهم عن السياسة، وفي المنعطفات الخطرة من تاريخ البلاد، لم تكن الثقافة المقموعة، أو تلك المدجنة في المؤسسات الرسمية، لتستطيع ممارسة أي فعالية، تنطلق من خصوصيتها، وتنفتح منها إلى مخاطبة المجتمع برمته.
كل ما جرى سابقاً، كان يُظهر المثقفين في وضعية الالتحاق بالسياسيين، وربما بأسوأ أنواع هؤلاء، أي أولئك الذين يعملون كأبواق للنظام. وخارج دوحة الثقافة الرسمية، كان المثقف المستقل، أو المعارض، يعيش في عالمه الخاص، وهو متهم سلفاً بأنه من الناحية السياسية، محسوب على جهة معارضة، قائمة بذاتها، أي الثقافة! ولذلك هو موضوع تحت المراقبة. وبالنسبة للأجهزة الأمنية، فإن هؤلاء يتسببون بالأذى: ألم يأت من نواحيهم بيان الـ99 في نهاية شهر أيلول، عام 2000، الذي طالب بإنهاء العمل بقانون الطوارئ، والعفو عن السجناء السياسيين، والسماح للمبعدين والمنفيين بالعودة للبلاد، والحماية القانونية لحرية التعبير وحرية التجمع، ولحياة عامة خالية من القوانين، والقيود، ومختلف أشكال المراقبة المفروضة عليها؟!
ألم يفتحوا بذلك صندوق بندورا المليء بالشرور، وجاءوا بعد ذلك ببيان الألف؟ ألم يأتوا في وقت لاحق ببيانات لا تقل تخريباً عما سبق؟ هل تذكرون إعلان بيروت دمشق؟
في الماضي، كان يمكن اللعب، على قصة الحياد والانكفاء عن السياسة، بحجة الاختصاص، والادعاء أن الحياة تبدأ بالثقافة والفن، وتنتهي بهما، لكن ثورات الربيع العربي، أنهت، وبشدة، هذا النوع من الانتحاء، الذي يخفي تبريراً لعدم الرغبة بتحمل نتائج مواجهة السلطة.
الحدث أكبر من أن يترك أحداً خارج عاصفته، وبهذا يصبح الادعاء بالخصوصية الثقافية، موقفاً سياسياً، لن يحاسبك عليه أحد، فيما لو كانت المعركة تجري بأسلحة قوامها الورود والهتافات، لكن حين أمست الورود والهتافات، تُقابل بالرصاص وبالقتل والسحل والاعتقال والتغييب والإختفاء القسري، لن يكون الاختباء وراء الثقافة، سوى محاولة بائسة للنجاة، من دون دفع أي ثمن!
لم ينتبه أولئك، ممن مضوا في هذا الخيار، أنهم يخرجون من موجة عامة، سيهتز كل ثابت، بسبب نبضها، وفي النهاية انتهى بهم الحال إلى حالات رثة، يعيشون في هامشهم، حيث لا يستطيعون مباشرة قضية هامة، أو شأناً عاماً، من دون الالتزام بالسقوف التي وضعتها لهم السلطة، وهي تراهم مجرد إكسسوارات في مشهدها، قابلة للإهمال والاستغناء، والاتلاف أيضاً.
يمكن سحب الموقف هذا إلى عتبة الحرب، ففي زمنها لن تستطيع قراءة الصحف من الصفحة الثقافية، بل من صفحتها السياسية، لأن مصير كل الصفحات يبدأ بها، كما أن العيون لن تكون مجرد ناقل للحروف والكلمات، بل ستكون شاشة تقابلية، بين المعنى الأولى للحدث، وبين معانيه العميقة، ومنها ذلك الوجه الثقافي، فالقتل هو إبادة للشعر، والقصف هو إبادة للعمارة بكل جمالياتها، والاعتقال هو إخراس للأصوات، التي تقول كل شيء بأدواتها، كما أن الاحتلال في المحصلة هو سجن كبير، هو صورة لسجون الطغاة!
تتكرر المعادلة في مواجهة كل أنواع الطغيان، فكل طاغية ميليشاوي يرتكب ممارسات قمعية هو صورة لاحتلال! وكل ثقافة لا تبدأ برفضه، لن تكون مجدية أمام طغاة آخرين، يأتون لاحتلال حيواتنا!
وبالعودة إلى الصحيفة والموقع الإلكتروني، لا بد من ملاحظة أن كل ما تأتي به الأخبار عن إنجازات الآخرين، هناك في البلاد البعيدة، لن يحمل ألقاً ولا بهجة. فكل ما يجري في زمن الحروب، لن يكون سوى صورة عنها! وإذا حاولنا التحايل على هذه الحقيقة، لن نكون سوى مرضى بالإنكار!
الثقافة وحدها، وبذاتها، لا تستطيع أن تبني عالماً موازياً، منفصلاً عن الحياة ذاتها. وفي هذه الأيام، حيث يحترق الناس في حوادث تافهة، يتسبب بها الإهمال، والاستهتار بحيواتهم، من دون أن يكونوا في دائرة الاستهداف، ويفقدون حاضرهم ومستقبلهم، حتى وإن اعتزلوا العالم الخارجي، كيف يمكن لعيوننا أن تترك كل هذا الخراب، وتذهب إلى صفحات تحكي عن فعاليات ثقافية تجري في بلاد سعيدة؟ أي سعادة ترتجى وسط كل هذا الخراب؟