تقوم الشرطة الدينية أو حراس معبد الأخلاق، المفصلّة على قياس فهمهم، في بعض الدول التي يربط الحكام فيها استيعابهم المقيّد والمحدود للدين الإسلامي بنظام الحكم وبالإدارة وبالإنتاج وبالصيرفة وبالأخلاق وبالتربية وبالرياضة، وإلى آخره من التفاصيل، بفرض قيود صارمة بحق النساء وما ترتديه أولاً، ومن ثم بحق بقية أفراد المجتمع، إن تقاطعت مواقفهم ومناصرتهم مع ما تسعى إليه بشكل طبيعي وإنساني المرأة من حقوق قد تم حجبها عنها. هذا الحجب الذي كان سائدًا في كل المجتمعات شرقاً وغرباً في الماضي القريب من قبل البطريركية المهيمنة، والذي صار لاحقًا، تمييزًا محصورًا بممارسة البعض للدين الإسلامي، مع التأكيد على بقاء ترسباته في المجتمعات الغربية، التي يدّعي البعض انها أعطت المرأة كافة حقوقها حتى يومنا هذا، وهو من غير المؤكد حتميته.
ويبدو أن مسألة لباس المرأة وحجابها المرأة صارت الشغل الشاغل للبعض الكثير. وصار اللجوء إلى نقاشاتها العقيمة نصّيًا وفكريًا وأخلاقيًا، يُعفي الذات البشرية عن الانصراف إلى ما هو أساسي في حيوات الناس وحرياتها، ونموّها الفكري، والاجتماعي، والاقتصادي. فكل وسيلة لإشغال العقول والهاء النفوس هي محمودة، خصوصًا من قبل السلطات المستبدة، التي تستعين حينًا بالدين كحجاب حقيقي عن خوضها في حريات الناس وانتهاكها لحقوقهم. وكذلك إشغال العقول والنفوس عن قضاياهم الأساسية. كما هي مناسبة للبعض ممن يتبنون النظرية الليبرالية والذين يغارون على حرية النساء فقط، حينما تختار البعض منهن ارتداء لباس معين يرون أنه مطابق لعقيدة يرون أنها فرضته عليهن.
في الأسابيع القليلة الماضية، ألقت قوات الأمن الإيرانية القبض على طالبة جامعية خلعت لباسها، احتجاجًا على ممارسات زجرية ارتكبها بحقها أفراد من الشرطة لمجرد خروج خصلة من تحت حجابها. وبالتأكيد، فما أقدمت عليه هذه الطالبة هو تعبير عن سأم وغضب جيل كامل من الإيرانيين، نساءً ورجالاً، أمام ممارسات من هذا القبيل ساهمت عقودٌ من سيطرة هذه السلطات على إبعاد الناس عما تدعي هي تبنيه والدفاع عن قيمه. يكفي مثلاً أن تذهب إلى أي مطار أوروبي وتنتظر وصول طائرة آتية من طهران، وتراقب مرور القادمين في معبر الوصول لتجد أن غالبية النسوة يخلعن حجابهن فور خروجهن من الطائرة. هؤلاء النساء لسن بعيدات عن الإيمان وعن الدين كما يدّعي البعض، لكنهن سئمن من أن تكون تصرفاتهن هي إملاءات ذكورية تفرض بالقوة.
في المقابل، ينشغل الغربيون ومن بحث عن إرضائهم، ومن تطرّف في استيعابه لمفهوم العلمانية على أنها عداءٌ للدين، بحجاب المرأة المسلمة لديهم. وخصوصًا إن كانت تنتمي إلى طبقة لا يجنون الفوائد منها. أي أن هناك بعداً طبقياً في مواقفهم "التحررية"، لأننا نفتقدها حينما تكون المرأة المحجبة ذات مال وسلطة اقتصادية. وكذلك، فالمخيال الاستعماري، الذي تحوّل مع الزمن إلى موقف لا إرادي شبه تلقائي يتوارى خلف مسميات عدة، ليس أولها حرية المرأة وليس آخرها تحرّر المجتمع، لم يزل يدغدغ رؤيتهم للنساء اللواتي يضعن الحجاب. وحيث أن هناك تصالحاً نسبياً في أغلب المجتمعات الغربية، إلا أن الموضوع صار فرنسيًا هو الأساس تقريبًا في كل محاولة للتطرّق إلى ملف الهجرة والأجانب. يمينٌ متطرّف أطلق العنان بداية لكراهية راسخة لكل الأجانب وللمسلمين منهم بالخصوص. أضيف إليه يسارٌ يبحث عن معنى، بعد تخليه عن موقفه الطبقي وعن جدالاته المؤسسة وعن تاريخه في التضامن الإنساني مع المستضعفين، وصار يسارًا شكليًا يتبنى خطاب اليمين ليصل الى أفئدة المقترعين الذين ينجذبون إلى اليمين المتطرف أكثر فأكثر. وأخيرًا، أضيف الى هذه الخلطة العجيبة، مسلمو الخدمة أو كارهي الذات، ممن يبحثون عما يمكن له أن يروّج لذواتهم في سبيل الوصول إلى الشهرة أو المناصب أو حتى الجوائز الأدبية.
الانسان الواعي، متدينًا كان أم لا، عليه أن يحترم خيارات المرأة فيما تلبس. فلا يفرض عليها ولا يمنع عنها. وبذلك يمكن أن نستنتج أن المتطرفين من الطرفين هما حلفاء موضوعياً يمارسون قمعهم للحريات. فعندما تمنع طالبان خروج المرأة من منزلها بحجج واهية، يقوم عتاة العلمانيون بالأداء ذاته حين يمنعون امرأة محجبة من مرافقة أولادها إلى الرحلات المدرسية، كما في فرنسا. أو يمنعونها من السباحة أو ممارسة الرياضة بسبب اختيارها لرداء يناسب قناعاتها، ولا يسبب أذى للآخرين في أي حال من الأحوال. النتيجة واحدة، حصر الفضاء الجغرافي الذي يُسمح للمرأة أن تتحرك من خلاله.
منذ أن قام المستعمر الفرنسي بخلع حجاب الجزائريات أمام عدسات آلات التصوير مع قهقهات اللذة البهيمية، يقوم الحاكم في بعض الدول الإسلامية بإهانة المرأة وفرض الحجاب عليها. هما طرفا عملة واحدة صارت قيمتها بخسة رغم رواج التعامل بها. وكما أن خلع الحجاب لا علاقة له بلفظ الدين في بعض الدول الإسلامية، فإن وضع الحجاب في فرنسا خصوصًا لم يبرز إلا مع السعي لمنعه. فلقد صار مؤشرًا هوياتيًا وليس دينيًا.
نعيش في ظل احتباس حراري، فقر مستدام، مجاعات، حروب عبثية وأخرى استعمارية، تصفية عرقية، فيضانات، ليبرالية اقتصادية متطرفة تلتهم الأخضر وتترك من ورائها اليباس. كلّها أمورٌ عجز طرفا العملة الواحدة عن وضع تصوّر لكيفية تجاوزها بأقل الأضرار الإنسانية الممكنة. يُبدعان فقط في اختلاق الحجج لإشغال من يعتقدون بأنهم خاضعين أبديين. إن كانوا اليوم كذلك، فما الدوام إلا لله وحده.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها