بعد نقل السفارة الأميركية إلى القدس، تباهى ترامب متهكماً: "نقلنا السفارة ولم تنطبق السماء على الأرض". في تلك المقولة يشير إلى الآراء التي خرجت إلى العلن من داخل المؤسسات الأميركية وفي وسائل الإعلام، محذرة من تبعات القرارات التي اتخذتها إدارته بشأن الأوضاع في الشرق الأوسط. كان نقل السفارة خطوة واحدة ضمن مشروع متكامل ومنسق لتصفية المسألة الفلسطينية. كانت الأمور قد وصلت إلى نهايتها بالفعل، لكن لم يبق سوى الإعلان الأخير. كان هناك قلق من أن تبدد سراب حل الدولتين قد يقود إلى اندلاع اضطرابات في الأراضي الفلسطينية وفي المنطقة بالعموم. وهو ما قد يترتب عليه تهديدات للمصالح الأميركية. لكن ردود الفعل كانت أقل من متواضعة، مرّ مشروع التصفية الأميركي من دون منغصات. وفي هذا السياق، كانت الاتفاقات الإبراهيمية في جوهرها، تثبيتاً لهذا المشروع، وختم موافقة من دول الإقليم على مخرجاته، موافقة بدت احتفائية ومتحمسة أكثر منها وليدة اضطرار أو منطق برغماتي بارد. فالتطبيع مع إسرائيل صار جائزة في حد ذاته، ولم تعد تل أبيب في حاجة لتقديم شيء في المقابل. صيغة الأرض مقابل السلام التي كانت المعادلة المعتمدة للتطبيع منذ كامب ديفيد لم يعد لها مكان في الشرق الأوسط الجديد، حيث صار السلام مقابل السلام هو شعار لمصالحة تتم على حساب الفلسطينيين. ولتزيد الطينة بلة، جاءت صفقة القرن، التي تركها ترامب في يد نسيبه المستثمر العقاري وعديم الخبرة في شؤون السياسة الخارجية، جاريد كوشنار، بمثابة الإمعان في إهانة الفلسطينيين، بعد إلقاء الفتات في وجوههم.
صحيح لم تنطبق السماء على الأرض حينها. وعلى الأغلب عولت القيادات الفلسطينية بالرغم من انقساماتها المريرة وعدواتها على أمل مشترك، وهو أن يكون الاضطراب الذي أحدثه ترامب في المشهد الأميركي وحول العالم مجرد لحظة عابرة، سرعان ما يتم تجبير خسائرها وإعادة الأمور إلى مسارها المعهود. أي إلى الطريق الملتف حول نفسه المسمى عملية السلام. ومع أن غلبة بايدن على ترامب في الانتخابات الماضية كان تحققاً جزئياً لتلك النبوءة المتسولة للأمل، إلا أن ساكن البيت الأبيض الجديد لم يراجع أي من قرارات سابقه المصيرية، فيما يخص المسألة الفلسطينية. بل وعلى العكس، تصدت إدارة بايدن لاستكمال مشروع السلام الإبراهيمي، وتوسيعه بضم السعودية إلى معسكر التطبيع. وبات توقيع الرياض أمراً في حكم الأكيد، واقتصرت التخمينات حول موعد الإعلان عنه. كان كل شيء يتحرك بسرعة، وبنية النظام الإقليمي تتغير بشكل لا يمكن ملاحقته. وفي ظل واقع بلا أفق، انطلق هجوم طوفان الأقصى، وهو الأقرب إلى عمل انتحاري جماعي يحركه بالأساس اليأس المطبق. وأخيراً، انطبقت السماء على الأرض.
بشكل أو بآخر، يقف ترامب وراء السابع من أكتوبر، بعد أن دفع صلف سياساته المنطقة إلى حافة الهاوية، وإن كان الانفجار تطلب بعض الوقت للاختمار. المدهش أن تكون الحرب في غزة وراء تعزيز حظوظ ترامب في العودة إلى البيت الأبيض. فبينما تتقارب نتائج استطلاعات الرأي بينه وبين هاريس، يكفي تحول بسيط في الاتجاهات التصويتية في بعض الولايات المتأرجحة لقلب الميزان لصالح ترامب. الأداء المخزي للإدارة الديمقراطية في دعم الإبادة الجارية في غزة دفع الكثير من مصوتي الحزب الديمقراطي المخلصين من الأقليات والراديكاليين إلى التخلي عن مرشحته. التصويت (أو عدم التصويت) العقابي ضد هاريس، على خلفية الحرب في غزة، سيصب في النهاية لصالح ترامب. ففي ظل ديمقراطية بلا خيارات، كما في حالتنا هذه، تصبح أي محاولة جادة لممارسة السياسة مجرد تدريب على استعراضات الغضب أو اليأس أو الإثنين معاً. المسار الدائري للأحداث، يدور في حلقة مفرغة، من ترامب إلى الطوفان، ومن الطوفان إلى ترامب.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها