حصدت مجزرة "شارلي ابيدو" صدى اعلامياً واسعاً. من طرف آخر، أكدت على العقاب؛ السخرية من الإسلام جزاؤها الموت، الحكم صدر على رسامي الكاريكاتير بالإعدام، نفذه المهاجمون وأعلنوا انتهاء مهمتهم بصرخة: "تم الثأر للنبي". بعض المحللين شبهوا العملية بـ 11 أيلول فرنسية، بينما ارتفعت أصوات اليمين: فرنسا في حالة حرب، وذكروا الفرنسيين: "لقد حذرناكم"، طبعاً التحذير كان من المهاجرين المسلمين العرب.
بجميع المقاييس، الجريمة مروعة ضد الإنسانية وحرية الرأي، مهما كان هذا الرأي، جنونياً، أحمق، أرعن، عدائياً، ملتاثاً، طائشاً... ردود الفعل تتالت، الجريمة أدانتها مختلف المراجع الدينية الإسلامية، الرسمية وغير الرسمية، كبيرها وصغيرها، وفي مقدمتها "الأزهر" في القاهرة. لولا هذا الاحتقان، أو لو كانت الظروف مناسبة، أي توفر فضاء من الحرية، لخرجت مظاهرات في البلاد العربية تنديداً بهذا العمل. صبر الناس نفد على هذه الأعمال الوحشية، لم تعد بعيدة عنهم، قد تطالهم؛ الاعدامات وقطع الرقاب والأيدي والجلد، ليست مزاحاً، ولا أمراً عارضاً. أصبح في المنطقة دولة وخليفة وشريعة يُحتكم إليها، وجيش وخلايا عاملة ونائمة في ارجاء العالم، تعمل على تطبيق أحكام أولي الأمر بالسيف. هذا ما يخشاه أناس كثيرون، وليس بعيداً عن الحقيقة. العنف لم يعد عملاً استثنائياً، بات منتشراً، الارهابيون المتأسلمون ليسوا أشد وحشية من الأنظمة، إذا كانوا يقتلون بالمفرق، فالأنظمة تقتل بالجملة، وبشكل يومي، تحت أنظار العالم كله.
المقارنة السابقة لا تعني الغرب، وإن كانت ضرورية للتذكير بالإرهاب في بلادنا. الضحايا لا يغفرون، والدماء تتساوى. حسبما تدعي السلطة أنها مقتلة علمانية ضد التخلف الأصولي. المشكلة الراهنة اليوم، غربية أخذت طابعاً متأسلماً. وتتنبأ بسلسلة جرائم، كرد فعل ضد المهاجرين المسلمين ذوي الأصول العربية. فالحرب التي بدأت، وليس مهماً، متى أو من بدأها، فهي تبدأ وتنتهي، ثم تتجدد من حين لآخر.
فعل الجريدة الفرنسية الحضاري أو الاستفزازي كان جلياً، قبل سنوات أعلن المسؤولون عن إدارة تحرير المجلة "تصميمهم على مواصلة التهكم على الاسلام حتى تصبح السخرية منه أمراً شائعاً مثل المسيحية". بصرف النظر أن استباحة المسيحية لم تحصل إلا بعد معاناة قرون من الحروب الدينية، أدت إلى ما يدعى بالإصلاح الديني. أحرزت نجاحاً لأنها تمت بأيدي المسيحيين أنفسهم. هذا الإنجاز غير مدين للسخرية، بل للأفكار المتصارعة والدماء التي أهدرت. السخرية لا تسهم بإيجابية في مجال الإصلاح الديني، ولا تورث سوى الأحقاد. المفارقة، سماح الغرب بانتقاد أي دين والسخرية منه، بينما يعاقب بالسجن كل من ينكر "الهولوكوست"، أو يشكك في عدد ضحاياه، من دون اعتبار ذلك انتهاكا لحرية الرأي او البحث العلمي.
مجزرة "شارلي ابيدو" ستستغلها أحزاب اليمين واليسار، طبعاً سوف تستفز الحركات العنصرية، المطالبة أصلاً بطرد المسلمين، لديها سوابق في التحريض ضدهم وافتعال حوادث تحرش تصل إلى القتل، تعاملهم مع المسلمين المهاجرين يمر عبر العنف، ولا يزيد عن مرتكبي المجزرة، وإن اختلفت الوسائل. ولا مبالغة في توقع أن يشن العنصريون حرب عصابات على تجمعات المسلمين الأهلية. استبقها "أبو مصعب" المقاتل في صفوف "الدولة الإسلامية" بإعلان الحرب بمناسبة العملية ، فهنأ المسلمين عبر الإنترنت من سوريا: "لقد ثأر أسود الإسلام لنبيّنا" وحيا المقاتلين الثلاثة: "هؤلاء هم أسودنا. هذا هو أول الغيث... والقادم أسوأ". وبهذا يتساوى اليمين المتطرف مع الإسلام المتطرف.
في عام 2012 حذر الناطق باسم البيت الأبيض من نشر الصور التي تسخر بالنبي، وانتقدها لأنها تعبر عن احتقار واضح بالإسلام، وتساءل عن الحكمة من نشرها، باعتبار أنها ستلهب مشاعر الكراهية. بعد أكثر من عامين، يظهر ألا حكمة من قبل ولا من بعد. لم ينفع تحذير البيت الأبيض، الكراهية انتشرت، لكن تحذير اليمين المتطرف كان مجدياً، الخوف انتشر، ولن يستغرب انقلاب الاوربيين العاديين إلى كارهين للمسلمين.
هذه الأزمة، لن تنتهي بقتل منفذي العملية، سيكون لها امتداداتها وارتداداتها، أحد الضحايا حرية التعبير. وتنعكس أيضاً على المنطقة العربية، بما يشجع الدكتاتوريات العربية على قمع المعارضين بحجة الإرهاب، وإعادة النظر في الإسلام طبقاً لاشتراطات غربية. القادم: مزيد من السحق والقمع بحجة حرية الرأي، في بلاد لا تعبأ بالحرية ولا بالرأي، ما يوقع المنطقة في المعاناة على مستوى أشد مما سبق، فالشتاء طويل.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها