في سوريا ما قبل الثورة، لم تكن الجدران أكثر من دفاتر للمجانين، على ما يذهب المثل الشعبي الدارج، أو دفاتر للتسبيح بحمد السلطة، تُخط عليها أقوالٌ للقائدين الخالدين. في سوريا قبل الثورة، لم تكن الجدران أكثر من لوحات إعلانية لأصحاب المنازل الغاضبين يدعون من خلالها العابرين إلى عدم التبول أو إلقاء القمامة أسفلها، وفي حالات أخرى كانت دواوين للمراهقين يؤكدون فيها على حب أبدي أو يشكون عبرها غدر المحبوب وخيانته.
الجدران نفسها التي رمزت أيضاً إلى السجن الكبير الذي أحاط بالسوريين لأربعين عاماً، أصبحت أول أماكن الاحتجاج على النظام نفسه، منذ أن خطّ عليها صِبية في درعا عبارات مستقاة من الثورتين التونسية والمصرية، غير مدركين أن عباراتهم تلك ستكون شرارة تشعل نيران ثورة تمتد على الأرض السورية.
في الشهور الأولى من الثورة، انتشرت ظاهرة "الرجل البخاخ"، عبارات مكتوبة على عجل ليلاً تدعو إلى إسقاط النظام وتنادي بالحرية، تسارع أجهزة الأمن السورية مع اكتشافها صباحاً إلى طمسها واستبدالها بأخرى تمجد الرئيس. لعبة الكر والفر هذه استمرت في العديد من المدن السورية، فما أن تنسحب القوات السورية من بلدة أو قرية أو مدينة ما حتى تغزو جدرانها شعارات تدعو للثورة وتناصر الجيش الحر، وبعد أن تعيد قوات النظام اجتياحها، تعمد إلى طمسها مجدداً، "يسقط النظام" ليلاً، تصبح "الأسد أو لا أحد" نهاراً.
الثائرون الذين اتخذوا من بخ الجدران بشعاراتهم وسيلة للاحتجاج دفعوا أثماناً مضاعفة، فاعتقل عدد منهم بينما قضى اثنان على الأقل برصاص النظام، بحسب ناشطين، محمد راتب النمر في مدينة حمص في شهر تموز/ يوليو من العام 2011 ونور حاتم زهرة في دمشق في نيسان/ أبريل من العام الماضي.
أشكال جديدة
مع تقدم الثورة، كان لا بد لأشكال الاحتجاج أن تنضج وتتخذ أساليب جديدة، لم تعرف الثورة السورية الغرافيتي إلا بعد مضي عدة أشهر على اندلاع الاحتجاجات، سواء الغرافيتي القائمة على الرسم المباشر على الحائط أو "الاستنسل غرافيتي" (والذي يقوم على خلق صورة أو كتابة عبر الورق المقوى ومن ثم نقلها إلى سطح واستنساخها عبر رذاذ الطلاء) وإن كانت أولى تعبيرات الاستنسل غرافيتي مؤيدة للنظام السوري، على جدران دمشق ومدن سورية أخرى موالية للنظام، ليس غريبا أن تشاهد صورة غرافيتي لشارة قناة الدنيا الخاصة، مذيلة بكلمة شكراً، طبعا تم استنساخ الصورة تحت أعين الأمن السوري وربما بإيعاز منه، القناة التي عملت بشكل ممنهج على تمزيق النسيج الاجتماعي واعتمدت التضليل والتهويل والمبالغة بدلاً من الدقة والتوازن والموضوعية وجدت من يشكرها على جدران النظام.
استولى علم الثورة السورية على النصيب الأكبر من الجدران في المناطق التي خرج منها النظام السوري، لكن لهذا ثمنه أيضاً، في مدينة داريا بضواحي دمشق، قامت مدرعات النظام بهدم سور كامل لمقبرة المدينة نتيجة رسم علم الثورة عليه في شهر تموز/ يوليو الماضي، هذا الإجراء دفع لاحقاً ناشطين في قدسيا إلى مسح رسومات مماثلة على جدران المدينة تجنيباً لها من انتقام مماثل.
في حمص قامت الفنانة السورية الشابة ريما الحموي (اسم مستعار) بتنفيذ أربع لوحات غرافيتي العام الماضي على جدران في أحياء الخالدية ودير بعلبة وحمص القديمة (تعرض بعضها للدمار نتيجة قصف قوات النظام على هذه الأحياء)، قبل أن تنفذ لوحة جديدة في حي ركن الدين بدمشق مؤخراً. تُظهر الغرافيتي الأخيرة طفلة تحمل بالوناً وسط القذائف المتساقطة مصحوبة بعبارة "شعب يحترف الحياة كلما أحاط به الموت"، لم تضق العبارة كلما اتسعت الرؤيا في جميع اللوحات التي نفذتها الحموي، بل تواجدت العبارة والرؤيا معاً، والهدف بحسب ما تقول الحموي هو "إيصال رسالة"، وهو أمر تكرر مع معظم لوحات الغرافيتي السورية، سواء تلك التي أتت ضمن حملات معينة مثل "إضراب الكرامة" أو "أحرار خلف القضبان" أو تلك القائمة على مبادرات فردية مثل "حيطان سراقب" وهي مجموعة كبيرة من العبارات والرسومات على جدران البلدة الواقعة في ريف إدلب وطغت فيها الكلمات على الأشكال وشملت حتى الحوائط المهدمة بفعل القصف.
عرفت السخرية طريقها إلى معركة الجدران، كما عرفتها في أشكال احتجاجية أخرى على النظام. على جدار في حمص، كتبت بسرعة عبارة تحذر من "قناص أحوَل"، فيما خُطت على جدار منخفض في سراقب عبارة مستوحاة من مثل شعبي سوري "حيطانّا قصار ومنعرف بعض". وفي دير الزور كتب أحدهم "هنا دير الزور وليست دير أبيب". وفي جزء من المعركة خيض على جدران العاصمة اللبنانية بيروت، نفذ ناشطون سوريون حملة غرافيتي على جدران أحياء في بيروت أواسط آذار/ مارس الماضي لمناسبة الذكرى الثانية لانطلاق الثورة السورية، اعتمدت على التحريض القائم على السخرية، منها صورة للرئيس السوري بشار الأسد وقد اختفى بعض ملامحه مع عبارة "الشعب يُسقط النظام"، وأخرى اقتصرت على عبارة "لن يسقط بائع الجولان"، وثالثة تقول "يسقط سيادة الرئيس الدكتور بشار حافظ الأسد".
لم يتحول الغرافيتي حتى اللحظة إلى مسهم فاعل في تشكيل الوعي البصري السوري، لا ساحة في دمشق تشبه شارع محمد محمود في القاهرة أو ساحة القصبة في تونس، لكن تحول الغرافيتي إلى علامة مميزة في هذين الحيزين المكانيين تطلب أولاً إسقاط النظام.