وفي ظل تصاعد التوتر في منطقة الشرق الأوسط، التي تُعتبر غنية بالموارد النفطية، يكمن تأثير جيوسياسي كبير على السياسات والعلاقات الدولية، خصوصاً بين الدول المستهلكة والمنتجة للنفط، بينما تسعى المصارف المركزية للحفاظ على استقرار الأسعار. فعندما يرتفع التضخم بشكل ملحوظ نتيجة ارتفاع أسعار النفط، تجد المصارف المركزية نفسها مضطرة لاتخاذ إجراءات لكبح التضخم، مثل رفع أسعار الفائدة. وتهدف هذه الخطوة إلى تقليل الإنفاق والاستهلاك والسيطرة على التضخم، لكنها تؤدي أيضًا إلى تباطؤ النمو الاقتصادي وزيادة تكلفة الاقتراض، مما يؤثر سلبًا على النشاط الاقتصادي العام. مع الأخذ في الاعتبار احتمالية مواجهة المصارف المركزية "صدمة سلبية في العرض الإجمالي"، ما يعقّد معالجة الآثار باستخدام أدوات السياسة النقدية التقليدية، ويدفعها إلى دعوة الحكومة للتدخل عبر السياسة المالية لمعالجة هذه الصدمة.
وقد أعرب أندرو بيلي، حاكم بنك إنكلترا، عن وجود التزام بالحفاظ على استقرار أسواق النفط، إلا أن هناك حدودًا لما يمكن القيام به في حال تفاقم الصراع. إذ قد يؤدي تصاعد النزاع إلى تعطيل إمدادات النفط الخام من الشرق الأوسط، مما يؤدي إلى زعزعة استقرار السوق، وإجبار المصارف المركزية على اتخاذ إجراءات أكثر صرامة في تعديل أسعار الفائدة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن المصارف المركزية بدأت بخفض أسعار الفائدة منذ أيام قليلة، بسبب تبعات جائحة كورونا وحرب روسيا وأوكرانيا.
وهنا نعود إلى الموقف التاريخي لأزمة عام 1973، حينما قرر الملك فيصل حظر النفط عن الولايات المتحدة، وتأثير هذا القرار على الاقتصاد العالمي. هذا السيناريو قد يتكرر في حال حدوث تصعيد غير محسوب بين إيران وإسرائيل. ومع ذلك، فإن استهداف إيران اليوم، في ظل قدرتها على الرد الفعلي وتأثيرها على استقرار الأسواق العالمية، يمثل معضلة استراتيجية للمجتمع الدولي، خصوصاً وأن أي ضربة غير مدروسة قد تؤدي إلى تعطيل خطوط الطاقة الحيوية، مثل إغلاق مضيق هرمز أو استهداف حقول النفط الإقليمية، مما قد يعيد الاقتصاد العالمي إلى حالة مشابهة لما شهده في منتصف السبعينيات. ونستذكر هنا مرحلة انهيار اتفاقية "بريتون وودز" وصدمة نيكسون عام 1971، وما تبعها من تشكّل نظام مالي عالمي جديد.
وبعيدًا عن التحليل العسكري المباشر، لا بد من التركيز على مدى التداخل بين هذا التصعيد الجيوسياسي وتأثيراته على السياسات النقدية للمصارف المركزية. ففي ظل الحديث عن ضبط أسعار النفط وتحركات رؤوس الأموال، تبقى السياسات النقدية في حالة تأهب، حيث يمكن أن تؤدي التطورات العسكرية المفاجئة إلى ضغوط تضخمية أو تقلبات حادة في أسعار الصرف وأسواق العملات.
وفي هذا السياق، إن استخلاص العبر من قدرة إسرائيل على جمع معلومات استخباراتية دقيقة عن قادة المقاومة في لبنان، وتنفيذ ضربات مركزة خلال فترة زمنية قصيرة، يمكن أن يعكس مدى قدرتها على استهداف إيران داخليًا بنفس الأسلوب. ومع ذلك، تظل مسألة الرد الإيراني على هذا الاستهداف مسألة مفتوحة على احتمالات عدة، مما يجعل من الصعب على المصارف المركزية توقع المسار المستقبلي للأسواق المالية وتأثيره على الاقتصاد العالمي.
وفي خضم كل هذه التوترات، تكمن المسألة الأكثر إلحاحًا في دراسة تأثير هذه النزاعات على السياسات النقدية العالمية. إن التعمق في المرحلة الحالية بتفاصيلها، وتأثيراتها المباشرة على توجهات المصارف المركزية، سيساعد على فهم كيفية تفاعل الاقتصاد مع التوترات السياسية، وما قد يعنيه ذلك من تحديات، واستراتيجيات نقدية مستقبلية، واحتمال خلق نظام مالي جديد ومختلف عن النظام الحالي، خصوصاً في ظل عدم فعالية أدوات السياسة النقدية التي تعتمدها المصارف المركزية في مواجهة الأزمات، وتعقيدها بسبب تداخل الأزمات وصعوبة التنبؤ بمسارها.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها