أنا فوزي - ولست ماريو خيمينث بطل رواية أنطونيو سكارميتا الشهيرة - أنا فوزي مَن سيكون ساعي بريد نيرودا في هذه المادة. لن أتواضع وأقول أني لست أهلاً لهذه المهمة، فأنا لا أحبّ التواضع بالمرة. أجد في نفسي كل الأهلية لأن أكون ساعي بريد نيرودا. فصداقتي ببابلو نيرودا تمتدّ لأكثر من عقدين وقد تمتّنتْ هذه الصداقة أثناء وجودي في الجنوب اللبناني كشرطي لسنوات. لطالما اختليتُ بهذا الرجل على غفلة من كل العالم وهو أيضاً لطالما اختلى بي حتى على غفلة مني.
نيرودا، مثلي، يحبّ الحكي، وهو ثرثار إلى أقصى الحدود، لكن حكيه أكثر ما يتوهّج عندما يكون محلّ اختلاء بنفسه في هذا المقهى أو ذاك، أو في غرفة القعدة بالبيت، أو وهو يقود سيارته وحيداً على الأوتوستراد الممتد من صيدا وصولاً إلى جسر الكولا. لطالما تبادلتُ ونيرودا الكلام في تلك المساحات، لكن كلامه معي فاض بقوة أثناء تواجدي في الجنوب.
بثّني نيرودا أخباراً كثيرة، منها مثلاً خبر غريب عن رجل يمون على الجنوب بشدة، ويهوى القفز فوق التوابيت. عشقتُ الجنوب وتراب الجنوب، واتخذتْ شمسه عند الفجر وعند الغروب طابع القداسة في ذهني وفي قلبي وفوق مسامات جلدي، لكن نيرودا أرهق روحي عندما أسرّ إليّ بسرّ ذلك الرجل الغريب الذي يقبض على الجنوب ويهوى القفز فوق التوابيت وبين الموتى.
أخبرني نيرودا، تحت شجرة فوق تلة تشرف على قلعة شقيف، عن تحوّل ناس تلك الأرض الطيبة إلى ضحايا بسبب "سياسات الغباء" وتكلّم عن "التفاؤلية المبتذلة" التي يجيد ذلك الرجل الغريب توظيفها مع كل إعلان حرب بواسطة أبناء الجنوب.
بعض كتّاب العالم يحفر في وعيي عميقاً، ويؤكد لي أن الأدب بالجوهر إنما هو واقعة جوّانية وليست برّانية على الإطلاق. فعندما يهمس نيرودا إليّ بما يداخله من أخبار، أكون جزءاً من تلك الأخبار ومن ذلك الهمس المدوي.
"أعترف أني قد عشت" مع نيرودا كثيراً ولم يعرني ولا مرة أذناً صمّاء. قال لي، عند مدخل بلدة الخيام، أن أخشى ما يخشاه، وهو إن يكف ناس هذه القرى عن مداعبة همومهم كأن هذه الهموم مجرد حيوانات أليفة، إذ ثمة من سيرمي بهؤلاء الناس بين أنياب وحوش مفترسة لا محل للرأفة في قلوبها المكونة من صواريخ وطائرات وأجهزة تنصّت وتكنولوجيا لعينة.
لطالما ألمّت بمسامعي، فيما أجوب الجنوب بآلية الشرطي الذي كنته، عبارات نيرودا التي لم أخمّن يوماً أنها ستحفر بداخلي إلى هذا الحد. أنا ساعي بريد نيرودا، لن أتوانى عن القول إن هذا الإنسان الهائل نغّص بعض أيامي عندما أخبرني أن ناس هذه القرى ستستبدّ بهم إيماءات الموت من كل حدب وصوب. فأولئك الذين نجحوا في إنبات النواح المدبّر في طول الجنوب وعرضه، قُدّوا من معدن الموت... الموت ثم الموت فالموت.
ليست العبارات التي تُطلق عبر أفواه أمثال نيرودا، مجرد كلمات تخترق الآذان. كلا، إذ ثمة في هذا العالم مَنْ كلماتهم تستوجب الإقتناص، تستوجب التحديق وتستوجب أكثر ما تستوجب أن يكون متلقّيها ساعي بريد نيرودا.
كلّمني نيرودا كثيراً، وكان ذلك أثناء سيري الليلي بين كفركلا وحولا، مروراً بالطيبة والعديسة وغيرها، أن على أبناء هذه السهوب والمنحدرات اللطيفة أخذ الحيطة والحذر، ذلك أن الدموع ستجرف الذكريات. أخبرني عند نبع الوزّاني، أنه قام في العام 1923، ببيع بعض قطع الأثاث فضلاً عن خاتم والده بغية نشر ديوانه الأول... صمت للحظات ثم أردف وهو يحوط التلال المجاورة بنظرة حزن، أن كل هذه التلال ستُكتب للأسف الشديد بين دفتي ديوان الموت. كلمني برجفة الصوت وشفقته، أن الجنوب هو هو منذ كارثة الـ69 و"فتح لاند"، وصولاً للعام 2024 والحرس الثوري لاند... الجنوب لعبة الغرباء، قال نيرودا، وهو يحدّق في حلزونة تنشط للتواري بين العشب الأخضر المشبع بالندى... يا لهذا القدر الذي قد ساق الجنوب لأن يكون رهن كل القضايا إلا قضية عشبه وشجره وناسه وذلك السرب من الطيور.
كلّمني نيرودا عند جسر الخردلي عن قصائده: "حجارة السماء"، "التمثال الأعمى" وأيضاً عن "الريح التي فوق الحجارة". وفي الطريق إلى النبطية، وعند السوق العتيق تحديداً، ربّت فوق كتفي بحنو واستبدل كلمة الحشرات في إحدى عباراته الرائعة بكلمة الصواريخ... "يا لتلك الليالي المثقوبة بآلاف الصواريخ"، قال وهو يتخاطف النظرات.
أنا ساعي بريد نيرودا، لطالما شطّ خيالي وشطح حيال هذه البلاد الجميلة، إنما المنكوبة بأبد الدمار، حتى ليقع بي الظن أنّ نيرودا كان يقصد ناس هذه البلاد بالتحديد عندما كتب في إحدى قصائده عن أولئك الذين يجيدون أن يكتبوا عبر يومياتهم أحزن الأبيات.
كل شيء يستدعي الظن أن مدينة بنت جبيل وما جاورها من ضيع، وأن مدينة صور وما جاورها من ضيع، هي رهن وجه مكفهر على الدوم. كل شيء يستدعي القول إن هذه الجغرافيا الممزقة هي الأقدر على احتكار كل ضروب الموت والتشرّد والتيه والهلاك.
أنا ساعي بريد نيرودا، قطفتُ البطيخ من سهل الوزاني، عشّبتُ الهندبة في محيط دير سريان، امتشقت بنظراتي أغصان الكرز في شبعا، وأغصان الزيتون في هذه القرية وتلك، ثم أرخيت جفنيّ فوق منبسط من العشب في وادي الحجير.
حمّلني نيرودا الكثير جداً من الرسائل وعمّق مكوثي في بطون ليالي الجنوب. قلت له وأنا أرسم في خيالي شكل الجنوب اليوم: فليذهب العالم إلى الجحيم ولتبق هذه القرى سالمة، وكان ذلك عند مدخل بلدة سجد تحت شجرة وارفة الظلال. نال الإرتخاء يومذاك من تقاسيم وجهه ورسم فوق التراب بعصا كانت في يده، حمامة بيضاء سرعان ما بددها ريح ذلك الغريب الذي يهوى القفز فوق التوابيت.
قال لي أثناء سيرنا في الطريق الرائع الممتد من مرجعيون إلى تل النحاس، أن أحسن ما جمعت في حياتي كانت قواقعي الجميلة (نيرودا: أعترف أني قد عشتُ). تهت عنه بعض الشيء، وأنا أشخص في تلك البيوت المترامية أمامي وكأنها قواقع دفء وسكينة تحوي حياة وذكريات وآمالاً.
غادر نيرودا عزلتي في أرض الجنوب، أما أنا فبقيت هناك ألتهم الكتب كحشرة غير مرئية. قرأت الكثير من الكتب داخل ثكنة مرجعيون، في سهل الخيام، تحت شجرات كفرشوبا وعيتيت وإبل السقي وغيرها. قرأت الكتب منبسطاً فوق صخرة في بلدة طلوسة، وكتباً أخرى عند مدخل رب ثلاثين وعند حواف ميس الجبل وغيرها.
جاء في كتاب "ساعي بريد نيرودا" للروائي أنطونيو سكارميتا، الذي غادر هذا العالم الشهر الفائت: "القطارات الوحيدة السريعة هي تلك التي تسافر إلى الجحيم".
كل الأمل أن تترجّل قرى الجنوب ومدنه من ذلك القطار، فالحياة تليق بتلك القرى والمدن بما يفوق التصورات... ربما بما يفوق حتى تصورات أهلها.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها