من خلال روايته يوثّق السنوار رحلة عائلته النازحة من قرية الفلوجة الفلسطينية، إلى مخيم الشاطئ، وما كان عليه سكان قطاع غزة، غداة الخامس من حزيران، من حالات اليأس والإحباط والفوضى والضياع، بعدما تركهم الجيش المصري، ساحباً أذيال الهزيمة، أمام أرتال الدبابات الاسرائيلية. وبعد خذلانهم، وانتظارهم الخائب لوصول الجيوش العربية المحرِرة، التي "ستدوس اليهود" وتعيدهم إلى قراهم ومدنهم التي فروا منها (ص 6). والمثير أن السنوار "الواقعي" وهو يصف انطباعاته وانطباعات المحيطين به، عن المعارك التي خسرها العربُ والفلسطينيون، يهزأ من الإعلام العربي الذي زعم اسقاط أعداد كبيرة من الطائرات الإسرائيلية، و"تدمير أعداد خيالية من الدبابات" (ص 78) ويعزو الفشل في ذلك إلى الإخفاق الميداني، وإلى اختلال الموازين العسكرية لصالح الإسرائيليين.
تُعدّ الرواية التي هي شهادة حيّة عن معاناة الفلسطينين جزءاً من روايات فلسطين الداخل. وهو أمر يجب مراعاته، عند مقاربة الرواية الفلسطينية للتمييز بين عين الداخل، وعين الخارج. فالراوي الذي يعيش تحت ضربات مطرقة الاحتلال، ويتلظى بناره، يختلف عن الراوي الحيادي، أو الناظر من بعيد.
والصورة الخارجية مشوبة أحياناً بظلال خادعة. أما الصورة من الداخل فأكثر شفافية وواقعية.
لذلك نقرأ عند روائيي الداخل، كما نقرأ في رواية السنوار نفسه، أجواء تصاعد السجالات السياسية الحادة بين الفرقاء، أو التيارات المتنازعة، لا سيما ما دار بين المؤيدين لاتفاقية أوسلو، والرافضين لها. أحدهما، وهو التيار المؤيد، يدعو إلى التسليم بالأمر الواقع. والآخر تيار متصلّب عنيد، يحثّ على وجوب مقاومة العدو، مهما كابد الفلسطينيون في سبيل ذلك من مشقات وحرمان. والطريف ان السنوار، ينقل أحياناً مناخ هذه النقاشات بحذافيرها، وبكل ما يكتنفها من احتدام بين المشاركين فيها.
كذلك يروي السنوار ظروف الحقبة الجديدة التي شهدت تحوّلات سياسية وعسكرية هامة في الأراضي الفلسطينية، واحتكاكات يومية بين الإسرائيلي، وما يحمله من دهاء وصلف، من جهة، ووهن الفلسطيني، قبل أن يشتد عوده مع الوقت، ويشكّل شوكة في حلق المحتل .
ويتطرق السنوار إلى التفاوت الطبقي بين أهل المدن وسكان المخيمات، فيرى إلى أنّ النظرة الفوقية التي يحتفظ بها أهل المدن إزاء اللاجئين، ما انفكت سارية، في شتى أنحاء الوطن. "حيث ينظر ابن المدينة لابن القرية نظرة استعلاء، ويتعامل معه بالكثير من الفوقية، إلا في بعض الحالات النادرة" ص 77، وهذا الرأي الذي طوته الأيام، يثير الدهشة كونه صادراً عن شخصية ذات منزع إسلامي متشدد، ولعل الدافع إليه، هو شظف العيش في مخيمات النزوح، ومرارة الجوع التي عانى منها، في طفولته المبكرة.
كذلك يتناول السنوار قضية، قلما يُحكى عنها علناً، هي قضية عمل الفلسطينيين، داخل أراضي 48 المحتلة، التي يُنظر إليها كإشكالية اقتصادية، تتعلق بمعيشتهم واسترزاقهم. مثلما هي إشكالية سياسية، تتعلق بالولاء للدولة المحتلّة. وهذا الموقف المأزوم أفضى عند بعض أبناء البلد من أصحاب الحظوة، وذوي النزعة المكيافيلية، إلى استغلال نفوذهم السياسي لدى السلطات الإسرائيلية للسماح لهم باستئجار اليد العاملة الفلسطينية، مقابل جني الفوائد المادية التي يتقاسمونها معهم. وبالفعل، دفعت الحاجة الماسّة أحياناً بعض الفلسطينيين، الذين يلهثون وراء رزقهم، إلى العمل على حفر الخنادق التي يقيمها الجنود الإسرائيليون ليتحصنوا فيها. وقد تناول حيثيات هذا الموضوع عدد من روائيي الداخل، مثل المسرحي والقاص راضي شحادة، والروائيين: سيد قشوع، ومريد البرغوثي، وأميل حبيبي.
وعكف السنوار على استذكار دقيق للعادات والطقوس الاجتماعية، وذَكر أصنافاً من الأطعمة والوجبات الفلسطينية، وأحياناً طرق طهيها ومذاقها. ووصف كيفيةَ تنظيم الأفراح والأعراس، وطرقَ التدريس، ووسائلَ التربية، ومعاقبةَ الأهل لأولادهم، وأنماطاً من لعب الأولاد، من بينها لعبة تُسمى (عرب ويهود) حيث ينقسم اللاعبون إلى فريقين، تكون الغلبة فيها دائماً "بتواطؤ من الكبار" لصالح الفريق العربي. ولا يُخفى ما يمثّله هذا التشكيل الرمزي، كما يرى السنوار نفسه، من تعويض معنوي، عما لحق العرب من هزائم وخسائر.
كذلك تبرز محاولة استقطاب الأحزاب للطلاب، ومطاردة العملاء المندسين، وإقامة الكمائن الفدائية، كما الحديث عن طرائق تعذيب المعتقلين.
وعليه، فإنّ الرواية في نظر السنوار عدسة سياسية، ترصد حركة الناس، وتنقل آراءهم. ومن هذا المنظور تشكل جزءاً من المهمات الملقاة على عاتق الداعية، او الزعيم الإسلامي، بهدف تهذيب العقل والسلوك، وشدّ أزر المسلمين أينما حلّوا. ويمكن أن نلمس في هذا السعي إلى التوثيق الاجتماعي والثقافي والسياسي ضرباً من ضروب الحفاظ، على أصول الذاكرة الشعبية ورموزها وطقوسها، قبل أن تندثر، وتذوب في محيط التطوّرات والتحوّلات. هذا الموروث هو ما يثبّت ركائز الهوية التاريخية الجماعية الفلسطينية، التي يكافح تحت لوائها الفلسطينيون.
والبحثُ عن الذاكرة المعلّقة على حافة النسيان، أو إعادة تكوينها وتوليفها من شذرات حكائية متباينة، كانت الثيمة الأساسية التي اشتغل عليها الياس خوري، في روايته "باب الشمس" القائمة على ما نقله عن ألسنة سكان المخيمات الفلسطينية من حكايا، من دون تمييز بين المعيش والمتخيّل.
كذلك رواية "المتشائل" لأميل حبيبي، ذات الأسلوب الساخر واللاذع، تستمد مادتَها من الأحداث التاريخية، ومن التراث الشعبي. وإذ يمثّل المكان الفلسطيني مستودع الذاكرة الجماعية، فإنّ حبيبي يعمد إلى تفصيل نواحيه الجغرافية والبشرية والنباتية كافة، وتدوين أسماء القرى التي دُمّرت واختفت عن الخارطة. وكأن استحضار اسمها يعيدها إلى الحياة.
كما تشبّثَ مريد البرغوثي في "ولدت هناك، ولدت هنا" بالرموز والصور المجازية المعروفة، وغير المعروفة عن بلده فلسطين، مثل الزيت والصابون والقهوة، أو ما يسميه جيمس سكوت "التراث المكتوم".
بيد أن مجمل العمل الروائي للسنوار، يكتسب أهميته من كونه نتاج أسير فلسطيني، دفعته الأحداث إلى واجهة الزعامة، ولا يعوّل عليه كأثر أدبي، حيث يفتقر إلى جماليات الرواية الحديثة، ووظائفها المتعددة التي تجاوزت السرديات الحكائية. وجلّ ما ينسجه السنوار، هي خيوط مستلّة من ذاكرة تاريخية محتقنة، تهيمن عليها نزعة طوباوية، متمحورة حول صراع ديني، يتجاوز، على ما يقول السنوار في روايته، مسألة استرداد الأرض المغتصبة، وعودة النازحين إلى ديارهم التي طُردوا منها "إلى أن تكون معركة عقيدة ودين، معركة حضارة وتاريخ ووجود" (ص 132).
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها