التاريخ عالم معقد ومتشعب. وقد سمّاه ابن خلدون "فنّ التاريخ"، مما يجعل التاريخ علماً من علوم المعرفة، وليس مجرد سرديات زمنية، حتى أن الفصل بين العوامل المشكلة للأحداث التاريخية يغدو أكثر تعقيداً من الأحداث نفسها، كذلك الأمر نفسه فيما يتعلق بالسياق التاريخي والإطار الزمني المحدد.
وأما الذاكرة فهي استدعاء لحظات التاريخ والزمن السابق إلى جادة الحاضر. فالذاكرة إذا هي عيش التاريخ لا في الزمن الماضي، بل في الزمن الحاضر أيضاً.
أريد في هذه العجالة أن أميز بين الذاكرة المستعارة والذاكرة الجريحة لتكون مدخلاً لعنوان بحثنا اليوم.
ما يميز الذاكرة المستعارة أنها استرجاع الأحداث التاريخية وصياغتها في الحاضر بطريقة تتعلق بالوعي الفردي أو الجماعي. فالذاكرة الدينية مثلاً في أغلبها مستعارة بطبيعتها (الفصح اليهودي، أعياد القديسين، المولد النبوي..الخ). وأما الذاكرة الجريحة فهي بمثابة أرشيف يختزن الجراح والهزائم والانكسارات والتي يحتاج تضميدها إلى الكثير من الفخر والأمجاد لطرف ما، والأذلال والخضوع لطرف آخر!
أريد أن أختم هذه المقدمة بما قاله الدكتور طارق متري في هذا السياق: "من الصعب، في كثير من الأحيان، على مستوى الشعوب والافراد، التمييز بين الذاكرة والتاريخ، بالرغم من أن كليهما يتعامل مع الماضي! وبالرغم من كون الذاكرة عموماً غير كاملة وانتقائية، يبدو وكأن التاريخ، وهو النهج الاكثر منهجية وموضوعية، يلتقي معها في نفس الطريق". ويختم متري فكرته بالقول أن خيارات الافراد أو الشعوب وأعمالها هي فقط من يقرر تحويل الذاكرة إلى تاريخ أو التاريخ إلى ذاكرة.
التاريخ والذاكرة لاهوتياً:
في العهد القديم صار تذكر أحداث الخروج من العبودية في مصر عملاً مؤسساً في العلاقة مع الله، لا بل أن الوصية الإلهية كانت تفرض على الآباء نقل هذا التاريخ إلى الأبناء وعيش أحداثه باستمرار.
في العهد الجديد ثمة إشكالية مسيحية عميقة في فهم الليتورجيا كذكرى مجردة: "اصنعوا هذا لذكري"، أو أن تكون الليتورجيا هي الذاكرة الحية التي نستشرف فيها المستقبل "والدهر الآتي". ان الليتورجيا في الفهم المسيحي الغالب، مع بعض الاعتراضات، هي فوق الزمن أو بالتعبير اللاهوتي "تذوق مسبق للملكوت". خلاصة القول، إن الآباء والقديسين الذي كتبوا الليتورجيا وعاشوها لم ينظروا إلى الوراء فقط اي إلى التاريخ بل استلهموا الماضي ليعيشوا الحاضر بروح الزمن الآتي. وهذا هو المنهج الصحيح في شفاء الذاكرة الجريحة، اي خلق ذاكرة جديدة مستعارة.
لا حاجة للقول إن اليهودية والمسيحية، وحتى الاسلام، قاموا على الذاكرة قبل أن يكتب الوحي. إن محاكاة الميثولوجيا في اليهودية مثلاً جعل من التوراة نصاً غير تقليدي لديانة تقليدية. كما أن التقاليد الشفهية كانت محورية في تقرير قانون اسفار أو كتب العهد الجديد. وفي كل الحالتين لم تكن الذاكرة الشفهية حرفية بالمعنى الدقيق للكلمة.
الهويات والذاكرة الجريحة:
لقد ساهمت الذاكرة الجريحة في صياغة هوية الجماعات الدينية والاثنية جميعها. فلا يمكن أن نتحدث عن الهوية السريانية والارمنية دون المرور بمذابح "سيفو". حتى أن قسماّ كبيراً من الأدب اللاهوتي لهذه الجماعات عكس وجه "سيفو". يمكنني هنا أن استعمل مجازاً حادثة "كربلاء" في التاريخ الاسلامي للمقارنة مع "سيفو" في الأدبيات الدينية وعلاقتها بالذاكرة.
ان صدى نزوح وهرب اليونانيين من الأتراك يتردد صداه في اغاني الفلكلور اليوناني التي مازالت يُغنى في كل المناسبات الدينية. انها آهات النزوح والاضطهاد. أناشيد تمجد الابطال كما صورتهم الذاكرة الجمعية كلهم أقوياء ولا يعتريهم خوف وأجسادهم مفتولة العضلات منتصبون كاشجار سنديان قوي.
انها ايكونوغرافيا من نوع مختلف. فكما أن القديسين في الايقونات هم دوماً نحيلون وذو ذقون طويلة كعلامات عن النسك وافواهم كما آذانهم صغيرة علامةً للصمت، هكذا هي شخصيات الذاكرة الجريحة تعلي من تشاء وتحط من قدر من هو في المقلب الآخر.
ان شخصية بطرس الرسول كما نطالعها في الكتاب المقدس تشكلت من خلال الذاكرة الشخصية الجريحة. انكار بطرس للمسيح طبع مسيرته اللاحقة. كذلك بولس الرسول بقي شبح شاول يطارده ويؤثر في شخصيته ويتفاعل معها. إنه الذاكرة الجريحة الشخصية التي تساهم في نحت الهوية الذاتية.
الذاكرة الجريحة في الشرق:
منذ عصور الاضطهاد الروماني إلى سقوط القسطنطينية وزمن الإصلاح وصولاً إلى الهجرة من الشرق وفراغه تقريباً من المسيحيين، السكان الأصليين، في العصر الحديث، تختزن الذاكرة جراحاً كثيرة.
وقد لا نبالغ اذا قلنا إن ذاكرة الجماعات الدينية في الشرق وتاريخها ساهم في نحت هوياتها، وهي تراوحت بين شعور الضحية واستطالته، ونشوة الانتصار والفخر..
وفي إطلالة على الذاكرة الجريحة المعاصرة، وأعني بالتحديد القرنيين الماضيين يمكن الحديث عن ثلاثة جراح كبرى في الشرق، هذا لا يعني بالضرورة أنها الوحيدة، ولكنها الاكثر إيلاماّ في الوقت الحالي:
1-جرح القضية الفلسطينية: يقول المطران جورج خضر: "إن الهدف الأساسي لموقفنا الفلسطيني لا ينحصر في استعادة الأرض. نحن وراء استعادة الإنسان وشرفه". ويتابع القول: "لا يمكننا أن نرى الناس في فلسطين تموت كالعصافير". إن الجرح الفلسطيني مؤلم جداً لأنه يجسد معاناة شعب مستضعف لا يملك أدنى مقومات الحياة الكريمة في ظل استخفاف حتى لحقه في المقاومة! هنا تعود بك الذاكرة إلى مقاومة الاحتلال البريطاني في فلسطين واهازيج فرقة العاشقين: "من سجن عكا طلعت جنازة..". ما يؤلم أكثر أنه لن يبقى من فلسطين إلا اليسير في أيدي أبناءها، اذا استمر واقع الحال على ما عليه. هذا الجرح الفلسطيني لطالما أيقظ معه جراحاً أخرى أهمها "الوحدة" العربية التي آمنت بها الشعوب ولم يأمن بها الحكام.
2- جرح التنوع والعيش المشترك: لطالما تغنت الشعوب العربية بالعيش المشترك بين كل أطياف المجتمع، خاصة في مصر والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين، لتأتي الأزمات والحروب وتكشف زيف هذه الادعاءات. فالجميع عاد إلى الهويات الصغيرة الضيقة، في استعادةً للذاكرة القديمة وللتاريخ البعيد، مما عمّق الجراح والهزائم. لقد كان الجسد مريضاً لكن صاحبه يكتم آهات الألم، وأما الان فقد أطلقت الحرب صراخاً يصم الاذن. انه جرح العلاقات المتهدمة أمام طوفان مشاعر الكراهية.
3- جرح الهجرة والنزوح واللجوء: ان اقسى اللحظات التي عاشها ويعيشها الشرق حالياً هي الهجرة والنزوح واللجوء. إن جموع المهاجرين إلى أوروبا مؤخراً، على سبيل المثال، لديهم هوية جديدة شكلتها الذاكرة المجروحة في الحرب. هم يواجهون حاليا صعوبات الاندماج واللغة وتلاقي الثقافات بهوية صاغتها الحرب. كل عائلة هاجرت إلى أوروبا ترى نفسها تعاني غربتين: غربة المكان وغربة المشاعرة. لا بل أن تراكم جراح جديدة في الذاكرة من جراء هذا الصدام الداخلي سيشكل ذاكرة جديدة مستعارة ملقحة تمزج بين جراح الماضي بجراح الحاضر. هذا لا يعني أنها مقدمات للفشل والسقوط ابداً، لا بل قد تقود إلى نجاحات باهرة وصمود أمام الجراح.
خاتمة: إن مرحلة الشفاء والتعافي قد تستمر مدى الحياة لان الذاكرة المستعارة تنشىء من وجدان الذاكرة الجريحة ولا تتخطاها. ان التعافي يحتاج إلى قبول الماضي والتصالح مع الحاضر واستشراف المستقبل حتى تحيا الإنسان والأوطان بشرى "المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة".
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها