ليس الخوف نقطة ضعف البشر، بقدر ما هو خط الدفاع الأول عن أنفسنا. وأولى استراتيجيات الحفاظ على الذات، هي أنْ نرسم الحدود والفواصل بين ذواتنا والآخرين. وبين مكاننا ومكامن الخطر لنتحاشى كل ما يهدد وجودنا وبقاءنا، ونحن اليوم في لبنان بتنا نتأرجح بين الحدود الثابتة والمتحوّلة. الدائمة والمؤقتة. نرقص على تخوم الموت والحياة، بين الأمكنة الحارة المقلقة، والأمكنة الباردة الآمنة. بيد أنّ مخاوفنا ليست وليدة هذه اللحظات المأزومة، وإن بلغت ذروتها، في ما يرتكبه العدو من مجازر دموية متواصلة، في كل انحاء الوطن، وما يصاحبها من عصف تدميري، في الجو والبر والبحر.
تقوم جينالوجيا الخوف على الحفر عميقاً في أجسادنا ونفوسنا ومجتمعنا. ويستيقظ الوحش في ليالينا وأحلامنا وحكاياتنا. وتمثّل المناطقُ المجهولة البيئةَ الملائمة لبزوغ الصور المرعبة، والأفكار الإرتيابية السوداوية. ومهما حاول الإنسان الحديث، فلن يفلح في تدجين خوفه. بل إنّ الثقافة تقوم بإعادة تمثّل الشعور بالخوف لديه، دون المساس بقوامه وعناصره الجوهرية، لاسيما في الحكايات الشعبية، ذات النهايات المفجعة، والتي يمتزج فيها التاريخ المحلي، بالمخيال الحافل بالأشباح والقتل والعنف، والتي تتداولها الأجيال كجزء من الفولكلور الوطني.
لم يعد المرء في عصرنا يخشى العنقاء، والغول، والمخلوقات العجيبة والمفترسة، والبيوت المسكونة، والأرواح الخبيثة، وصرخات المجانين، والمستذئبين، ومصاصي الدماء، وآكلي لحوم البشر، والسحرة، وخروج الموتى من توابيتهم، والاستحواذ الشيطاني على أجساد الناس، والقتل الطقوسي. لكنّ سوق الأفلام الهوليودي ساهم، في أواخر السبعينات، في انتشار هذه الثيمات على نطاق واسع. وولّدت رومانسيات الروايات القوطية الغربية في مخيال القارئ طفرة الرعب، ما أفضى إلى تحويل كل منزل إلى قلعة مسكونة، وكل عروس إلى ضحية محتملة. وجرت دماء البطلة القوطية في أوردة بطلات أفلام السبعينات والثمانينات اللواتي كنّ يقاتلن، لإنقاذ أنفسهن من قبضة الشيطان، أو قبلته المميتة.
وما لبث مخرجون ونقاد وكاتبو سيناريو، أن سئموا من انتشار هذا النمط من روايات الرعب التقليدية، التي يسميها بعض نقاد السينما "الرعب المهذّب" أو المصطنع. وعكفوا على نمط آخر، تجاوزَ الحدود القصوى، وجعل القراء والمشاهدين يرتعشون خوفاً واشمئزازاً، وهم يحدّقون في هاوية الفساد البشري، وجذور العنف الأولى المؤلمة والقاسية، عبر مشاهد الدماء، أو ما يُدعى العنف التصويري، بتفاصيله المروّعة، إلى حد الغوص السريالي المذهل في ثنايا الجسد الإنساني.
وفي كتابه "الجذور الأساسية لسينما الرعب" تناول كارول أل فراي، موضوع الخوف البشري باعتباره من رواسب أزمنة سحيقة. ورغم أنّ الإنسان، على خلاف سائر مملكة الحيوان، ساعدته التنشئة والتربية على عدم الاستجابة المطلقة لقوانين الطبيعة، إلا أنّ الشعور بالقلق والخوف، ما انفكّ كامناً في حمضه النووي، وبنية دماغه البشري. مثلما هو نتاج الأزمات الإجتماعية، لا سيما التوجس من الآخر الدخيل والمختلف. وأسفرت هذه النزعة الإرتيابية عن سعي المرء لاحتياز موضع أو إقليم أو مجال خاص به، ينطوي فيه على نفسه، وعلى أقرانه وأشباهه. وهذا دأب بعض الحيوانات التي لا تسمح للغريب، بتخطي حيّزها باعتباره مساحة حرجة "espace critique" تدافع عنها ضد الدخلاء من جنسها نفسه، أو من أجناس أخرى. وهذا الاستئثار بالأرض راسخ في عقل الإنسان، ومردّه التوق إلى خلق عالمه الخاص، وتحديد شكله وهيئته، وإعلان شارات انتمائه. ومن أجل إيجاده وحفظه ينبغي إحاطته بالحواجز، أو تسويره، أو فصله عمن سواه. فكل مكان إنساني له طابعه، وميسمه، وتوقيعه الخاص، بل وأسلحته للدفاع عنه. ولكل ثقافة دمغتها، على حد قول ريجيس دوبريه الذي سخر من مشروع أوروبا، بدون أسلاك شائكة أو حراس أو رقباء. فلا عالم في رأيه، بلا فواصل ولا حدود، بلا داخل وبلا خارج. والحدود هي قبل أي شيء مسألة فكرية وأخلاقية، والخارطة حسب كريستيان جاكوب، هي انعكاس للذهن، قبل أن تكون صورة للأرض.
والآخر المخيف، تُجسده اليوم العنصرية الآتية من أعماق العصور السحيقة البدائية، القائمة على تقسيم البشر بين "نحن" و"هم"، بين الأبيض والأسود، بين الثري والفقير. والآخر المختلف يشكّل عنصراً مركزياً في صراعات مدمّرة قديمة وحديثة. وتشكّل هذه النظرة المتحيّزة مفارقة إزاء تعاظم الوعي بأهمية التواصل بين الناس. ورغم التعاون اليوم بين البشر، فإننا نصنّف كل جماعة لا تنتمي إلى جماعتنا المقرّبة، على أنها "هم" مقابل "نحن". بدءاً من لون البشرة، إلى الدين والقومية واللغة. ويذكر "سفر القضاة" في هذا المقام أنّ الجلعاديين هزموا بني افرايم، وفي اثناء فرارهم، كان أعداؤهم يعترضونهم على ضفاف نهر الاردن، وللتثبّت منهم، كانوا يطلبون منهم أن يلفظوا كلمة "شبولت" ومعناها سنبلة او مجرى، فإن لفظ أحدهم حرف الشين سيناً حزّوا رقبته.
وعادة ما يفضي تمثّل الجماعة للآخر المخالف، إلى العزف على وتر الخوف البدائي منه، باعتباره غازياً. بل وينجم عن ذلك شعور بالتوجّس من وجود آخرين يتخفّون وراءه، ويمهدون السبيل للتآمر عليهم، والعبث بمجالهم وإقليمهم وإرثهم الثقافي. كما في النظرة الشعبوية للماسونية، أو الحركات الدينية الباطنية التي يخشى البعض من التعامل معها، أو مصادقتها، وأحياناً، يتجنب مشاركتها في المأكل والمشرب.
وعلى المستوى الديني، يشكّل الشيطان، أو من يماثله في العقائد المختلفة، النموذج الأمثل والأخطر للدخيل الغازي الذي يهيمن على المكان، ويستحوذ على أجساد العذارى، بطرق خفية متعدّدة، حيث يأتي إلى العالم عبر رحم امرأة كبوابة للعبور، كما في رواية وفيلم "طفل روز ماري". ومن خلال إيمان المسيحيين بإمكانية حدوث الاستحواذ الشيطاني، ما تزال الكنيسة تحافظ على طقس طرد الشيطان. وكذلك في الإسلام، يتم التخلص منه بتلاوة الآيات القرآنية، وبعض التعاويذ الدينية. وطارد الارواح هو بمثابة المحارب الذي ينافح عن حياض قبيلته او إقليمه.
وكان موضوع الخوف وتمظهراته في الحضارة الغربية منذ نهاية العصور الوسطى، حتى فجر القرن التاسع عشر، هو المحور الأساس في أطروحة المفكر جان دوليمو الذي رأى في مقابلة له قبيل وفاته، أنّ العديد من المخاوف التي عاناها أجدادنا، تبدّدت واختفت مع مرور الزمن، مثل البحر الذي كان وعاء لمخاوف عظيمة، حيث لم تنجُ من سفن المستكشف فرديناند ماجلان إلا واحدة فقط، من أصل خمس سفن، بل إنّ ماجلان نفسه مات بسهم مسموم. وكان أسلافنا مقتنعين بأن العواصف هي التي تثيرها الشياطين.
وأودى الطاعون بحياة مئات الألوف من الضحايا. ويذكر دوليمو أنه أثناء تفشي الوباء في ميلانو العام 1630 خرج المواطنون إلى الشوارع ممتشقين بنادقهم، لإبعاد المصابين عن الاحتكاك بهم خشية العدوى. بيد أنّ مجتمعاتنا الحديثة إنْ طوت هذه الحقبة المخيفة، فإنها اليوم تخلق مخاوف جديدة، على رأسها توسّع الترسانة النووية التي يديرها عدد محدود من الأيدي.
وإذا كانت منابع الخوف في الأصل بيولوجية او غرائزية، فإنّ العامل الثقافي والاجتماعي، يحيل علة وجودها إلى أناس مفترضين، يتباينون عنا بطرائق معيشتهم وتفكيرهم. وقد عزا الغربيون في العصور السابقة ما أصيبوا به من نكبات طبيعية واقتصادية، وتوترات داخلية، ومن عدم الأمان، إلى المختلف عنهم والمنبوذ. إلى الشيطان والمرأة واليهودي والمسلم والساحر والمجهول واللامألوف. والأرض الخصبة لهذه المخاوف الشعبية، هي في انتشار هذه السرديات العجائبية واللامعقولة التي لا تنضب.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها