السبت 2024/10/19

آخر تحديث: 12:51 (بيروت)

ثلاث زيارات خاطفة للضاحية...وإنقاذ "جنجر"

السبت 2024/10/19
ثلاث زيارات خاطفة للضاحية...وإنقاذ "جنجر"
شرفة البيت
increase حجم الخط decrease
زميلتي خفيفة الظل، وهي أمّ لخمسة أولاد. في دردشة صباحية في المكتب، بعد سنوات على تجربة جائحة الكورونا وإرتدادات ضربات الزلزال في تركيا والجوار، مازحتُها بالقول: "في المرة المقبلة، سيأتينا الديناصور!".. جفلت المسكينة لثقل المزحة التي لم تستوعبها في بادىء الأمر.

عشنا معاً كشعوب تجارب قاسية، هددت حياة الناس واستمرار النمط الطبيعي للحياة. جائحة الكورونا غيرت العلاقات بين الناس والعائلات والزملاء في مكان العمل وفي المجتمع. زادت المسافات، كوّمت الناس في المنازل، ورحل كثُر. ثم جاءت الهزات الأرضية وتردداتها. الخوف حل بيننا من تحت، من الأرض التي نمشي عليها وننام ونأمن. كثر ناموا في العراء، في الساحات وفي السيارات. أفلام التسونامي كادت تتحول الى واقع. وفي إحدى الهزات الليلية القوية، ركضت وعائلتي الى باحة خاوية وسط بنايات في حيّنا. فوجدنا أنفسنا شركاء في الخوف وحب البقاء مع عائلات تشبهنا. في ثياب النوم، رحنا ندردش كي نكسر الخوف ونحن نتأمل البنايات العالية حولنا حيث المنازل تُركت مضاءة.

وحلّت حرب غزة. خرج "الديناصور" من كهفه، من جنونه، من الأسطورة النائمة على سم التاريخ، وراح يدوس الناس الأبرياء، نافخاً بلهيبه على الأطفال والكبار من رجال ونساء بلا رحمة، ليحولهم الى رماد إختلط مع الدمار الشامل، وضمير الكوكب الصغير غارق في عالم الطناش. تكاد غزة  اليوم  تكون أرضاً ممحوة عن الخريطة، وعبارة "الترانسفير" يُتهامس بها في الدوائر المظلمة.

ثم إستدار "الديناصور" نحونا؛ نحو الجنوب والضاحية والبقاع. خطرت في بالي أفلام عن "بيرل هاربور" و"11 أيلول" ومجزرة "التوتسي والهوتو". في أي عالم نعيش؟!!

أعرف هذا "الديناصور" ووحشيته وهمجيته منذ العام 1982. يوم إجتاح ثلاثة أرباع البلد وتسبب في أفظع مجزرة أرتكبت بحق الشعب الفلسطيني: مجزرة صبرا وشاتيلا، بلا حسيب ولا رقيب. خلال الإجتياح، تهجّرت وأهلي من رأس بيروت إلى قرية أمي في أعالي بحمدون. كان التهجير الأول، فعرفنا معنى أن تترك بيتك وناسك وحيّك، وكيف تنقلب حياتك رأساً على عقب وتخسر الكثير من كرامتك وعزتك على حواجز يحرسها ناس من بلدك. ولولا محبة بيت خالتي وأقاربنا في الضيعة، لنمنا في احدى المدارس المكتظة كحال النازحين اليوم. وما أن توقفت الحرب، حتى أسرعنا بالعودة حيث دفء الدار والجدران التي تتكلم، والجيران الذين تجمعنا بهم عِشرة سنين.

في العام 2006، عشت التهجير الثاني من الضاحية، هذه المرة كأب مسؤول عن عائلة. سكنت في بيت عمي في الطابق الأول في "زاروب حمود". أنا أعرف عائشة بكار منذ الطفولة والمراهقة. وتمكنت خلال الحرب التي دامت شهراً وبضعة أيام، من الاستمرار في الذهاب الى عملي في الجامعة الأميركية في بيروت. وكانت لي مغامرات في العودة الى شقتنا في الضاحية خلال فترات الهدوء ووقف إطلاق النار. لم أكن قد بلغت الستين بعد، لكني كنت أشعر بوجود "دولة" وشيء من النظام، وأن الحرب بقيت وفق خطوط حُمر وحضور عربي ودولي. كنت كلما زرت الضاحية، شعرت بالحزن لرؤية دمار الحرب والشوارع المقفرة، وقلة من الناس الفقراء الذين لا سبيل لهم للهرب. مع أني كنت دائم التذمّر من زحمة الضاحية والفوضى وغياب النظام، كان المشهد النقيض تعساً ومؤلماً. "الجنة بلا ناس.. ما بتنداس". وعُدنا بعد وقف إطلاق النار، وأضيفت الى روزنامتنا المتخمة بالأعياد... عيد جديد: "عيد الانتصار".

اليوم، فيما نشارف على نهاية 2024 التعيسة والسوداوية، ها أنا مهجّر للمرة الثالثة، في البناية نفسها والشارع نفسه، لكن في شقة في الطابق الثالث تعود لأقاربي. ترقية تهجيرية. يوم سكنّا في الطابق الأول قبل 18 عاماً، دامت الحرب 33 يوماً. واليوم، وحسب نظرية الديناصور المتفلت على عباد الله الذين يراهم دون صنف البشر، أتوقع أن يدوم تهجيرنا ثلاثة أشهر وأكثر. أحياناً، الحسابات غير المنطقية تصيب.

غامرتُ بدخول الضاحية ثلاث مرات منذ تهجيرنا الأخير.

في المرة الأولى، بقيت على إتصال مع زوجتي كي تزودني بالأخبار في حال حدوث غارة، أو إرسال خريطة الإخلاء بنيّة القصف. إتكلت على الله (في لحظات الخطر، يعلو منسوب الايمان لدى الانسان)، وعلى سيارتي، ونزلت من جهة الحدت مباشرة نحو منطقة المريجة حيث أقيم. المسافة كيلومتر خط نار. الطرق مقفرة، لا زحمة سير ولا دراجات نارية كانت تغص بها شوارع الضاحية. ولا أصوات زمامير. كان شارعنا مقفراً. كانت مهمتي تأمين الطعام للقط جنجر (علبتين طون). ركنت سيارتي أمام المبنى المهجور، جاري وصديقه كانا يدخنان في المدخل.
"كانت الليلة حامية"، بادرني.
الحمد الله ع السلامة".

إرتبكت فيما أحاول فتح الباب الحديدي ثم الخشبي. يداي ترتجفان. وجنجر يموء في الداخل. "الحمد لله، ما زال على قيد الحياة". بسرعة، وضعت له الطعام على صينية، وأكثرتُ من أوعية مياه الشرب. حملت معي أغراضاً خفيفة: ثياب، وكومبيوتر ابنتي الخاص، علب شامبو ومعلبات وكل ما تمكنت منه  مخيلتي أو سمحت لي بتذكره، وأغلقتُ البابين الخشبي ثم الحديدي، ونزلت الدرج، أدرت المحرك وعدت من الطريق نفسه.

الدخول الثاني إلى الضاحية كان أصعب لأسباب عديدة: كثرة الغارات الليلية وتوسع دائرة الدمار، مرافقة ابنتي لي، وطبيعة المهمة وهي جلب القط "جنجر" في قفص. وهنا الصعوبة. هذه المرة خفت أكثر، لخوفي على ابنتي. التجربة ستعلمها أن الرؤية ليست كما نسمع أو نرى في الهاتف النقال. شعرت بالاحراج لمغامرة إنقاذ قط في حرب يفقد فيها آلاف البشر أرواحهم. جرت معركة بيننا وبين "جنجر" الذي بدت عليه علامات الخوف الشديد لهول ما سمع من إنفجارات وقصف. صرنا نطارده من غرفة الى أخرى، ولولا مساعدة ابنتي لما تمكنّا من إدخاله الى القفص الذي صار ضيقاً على حجمه الكبير. حملت ابنتي القفص الثقيل، وأنا حملت بعض الأغراض والملابس الشتوية، وغادرنا بسرعة.

الدخول الثالث كان الأصعب، لأن شارعنا تعرض للقصف بالطيران قبل أيام وحصل دمار. ذهبت وحدي باكراً لتفقد البيت بعد قصف الشارع عندنا، وسقوط أكثر من مبنى. من صور الفيديو، تأكدنا أن بنايتنا ما زالت سليمة. كان المشهد في الشارع صادماً، بل مروعاً بسبب حجم الدمار. المبنى المقابل مدمر بالكامل، هنا حيث كان دكان جاري اللطيف والمحب لولديه، والمبنى الآخر شبه مدمر وغير قابل للسكن. الركام والزجاج وكابلات الكهرباء تكاد تغطي الشارع. وجدت نفسي في ساحة حرب وتملكني الإحساس بضرورة الإسراع قدر الإمكان، وفي بالي الأضرار المتوقعة في البيت. السوبرماركت الذي قاطعته منذ سنوات طويلة بسبب تسببه بزحمة سير وفوضى في الشارع، كان مغلقاً كغيره من المحال. المحال متضررة، ومدخل البناية وسخ وأعقاب السجائر في الزوايا. تجولت بخطى سريعة داخل البيت، فاكتشفت أن كل زجاج الأبواب والنوافذ قد تكسر وتناثر ومزق الستائر. لم أجرؤ على الخروج إلى الشرفة.

شعرت أني محظوظ مقارنة بجيراني الذين سويت بيوتهم وذكرياتهم وأملاكهم بالأرض. كانت جدران البيت صامتة، اللوحات التي رسمتُها بدت شاحبة، لا ألوان فيها ولا حياة، والمكتبة في المدخل سليمة. نسيت إخراج كتبي الخاصة وبعض الكتب التي تُقرأ عشرات المرات. الغسالة الأوتوماتيك التي أشتريناها قبل أشهر بقيت سليمة (جعلت من المسألة نكتة بين الزملاء والزميلات).

حملت أمتعة كثيرة وعدت إلى السيارة، وأقفلت عائداً عبر الشوارع مقفرة الا من قلّة من أمثالي أتوا للهدف نفسه. أين الجيران الذين كانوا يفترشون الرصيف في جلسات المساء ويحتفلون بالحياة على طريقتهم؟ أين جاري المحب "أبن البلد العتيق" وابنه الذي كنت أناديه مازحاً: الزعيم الوطني. كنت أفرح لرؤيته ناقلاً زوجته وولديه على دراجته النارية. أين زحمة السير والسيارات و"الموتسيكات" التي لطالما لعنتُ كل من يركبها لرعونتهم وكثرة عددهم واستهتارهم بأرواحهم وأرواح الآخرين؟ أين أصحاب المحال والسيارات المركونة التي كانت تتسبب بزحمة سير خانقة؟ أين الباعة وبسطات الخضر والفاكهة، وكل أشكال الحياة ولو بشكلها الفوضوي والمزعج؟ وأين القبضايات وأصحاب العضلات المفتولة والأوشمة واللحى والعبوس والمسابح الطويلة والنظرات التي تشرقط غضباً وأحكاماً مسبقة؟ وأين أصحاب المَراجل والجالسين على الأرصفة، يأركلون، ينظّرون في السياسة والزعامات والطائفية. والجميع يريد "الخسة الكبيرة" لدى البائع، وهي مع الأسف، في عقول كثر.

الضاحية – أمّ الفقير – والتي علمتني الدروشة، والبساطة، وقبول الآخر ولو رفَضَني، والتي بسببها رميت حب المظاهر عن كاهلي... وأمامي كل يوم، ناس يتمتعون ويؤخذون بها لأول مرة. الضاحية في الشهر الأخير كانت تغلي، كانت مستعجلة، وكان كل شيء يعمل في ماكينتها بوتيرة أكبر من طاقتها.

بلد تعس حمّلوه ويحملونه أكثر مما يحتمل. مشاكله أكبر من شعوبه. هو شقة مفروشة، بحاجة ماسة لتغيير مفروشاتها، والزوار كثر.. منذ زمن "البشيرَين" حتى اليوم.
مَن يقضي على "الديناصور"... سوى نيزك؟
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها