شهد أواخر العام 2010 ، ما اعتبر شرارة البداية لأعوام عربية ميمونة، سلسلة من الهبّات الجماهيرية الدراماتيكية، لم يطل الوقت عندما سقطت الدراماتيكية في التاريخ الذي انتفضت ضدّه، وانتصب التاريخ محمّلاً بما اختمر في داخله منذ ما يزيد عن خمسين عاماً. أفسحت هذه الهبّات في المجال للبلدان لتفجير قيح أورامها المزمنة، وإذا كان أحد قد توقّع العكس، فبنية بريئة، الشفاء وسلامة الجسد، ولم يبلغ به التشاؤم القول إن الثورات مأساوية وموعودة دائماً بفظاعات وفجائع، وأعداد لا حصر لها من الشهداء، لذلك خيّبت الثورات النظر الرومانتيكي إليها.
ما يجري في المنطقة، حسب محلّلين عرب وأجانب، أحد أهم معالم هذا القرن الذي استهلّ أولى خطواته في الزمن. فالتحرّكات الشبابية قامت بابتداع آلية جديدة سلمية للتغيير بتقويض دكتاتوريات راسخة، لكن الآلية الجديدة أثبتت بطلانها، وليس لعيب فيها، مثلما أخفقت الأحزاب المعارضة الوطنية طوال السنوات الماضية في انتزاع بعض المطالب من الأنظمة بالحسنى. انتقلت الانتفاضات من بلد لآخر، ليس بحكم التقليد، بل بحكم الحاجة والضرورة، فالظروف متشابهة، حتى تكاد في بعض الأحيان تبدو متماثلة على الرغم من الخلافات والاختلافات، ما يؤكد أن المصير المشترك الذي يجمع البلدان العربية، ليس من قبيل الثرثرة القومية، مع أنه ليس من مثال اقتُدي به على نحو كامل، ففي مصر أوقعتها سلميتها في أحضان العسكر، وفي تونس ربما وجدت طريقها إلى التعدّدية، في اليمن واجه شباب الثورة الرصاص الحي بصدور عارية، ثم ذهبت إلى المساومات. وفي ليبيا، قُمع المحتجّون بالإعدامات، فدخلت في الفوضى. بينما تراجعت السلمية في سوريا، وحمل المنتفضون والمنشقّون السلاح، وامتدّت إلى حرب مدن وشوارع وقصف وقنص. لم يكن الربيع العربي على منوال واحد، سوى أنه ملطخ بالدماء.
وضعت الثورات العرب في قلب التاريخ المعاصر، وسلّطت الأنظار على المنطقة، بعدما أسقطها العالم من حساباته المقبلة في المشاركة بصناعة المستقبل العالمي، وحكم عليها بالخروج من التاريخ، فكان أن كذّب العرب ظنونه، ودخلوا يشاركون في فوضى العالم العارمة، ويطرحون أجنداتهم: الحرية والاسلام، الكرامة والارهاب... وبدا من جديد، تحت وقع الصدمة، وكأن الزمن لن يطول ريثما تُترك هذه البلدان لمصائرها الغامضة، إن لم توضع تحت وصاية العالم بشكل مباشر، أو غير مباشر، بإعادة تقسيمها واقتسامها.
هذا العالم البعيد النظر، كما اعتدنا القول، كان غالباً مصاباً بقصر النظر. فلم ير في الاحتجاجات التي صعدها الشباب إلى ثورات أهلية، سوى أنها منزوعة السلاح، وكأنها ستسقط الأنظمة بأظافرها مواجهة الدبابات. فأيّد المظاهرات المتمترسة في الساحات والمنادية بالحرية، بعد معاداته لثورات التحرّر في الخمسينيات والستينيات والسبعينات. ثم شاء أن يقف في الجانب الظافر من التاريخ، بالتخلّي عن أصدقائه وحلفائه السابقين الخاسرين سواء المصري مبارك أو التونسي بن علي أو اليمني عبد الله صالح، ومعهم بالجملة القذافي الليبي، وإلى حدّ ما الأسد السوري. غير أنه سيمعن التفكير، عندما لم تطابق الثورة، ما تخيّله عنها، مع أنها لم تجافِ التاريخ.
للتاريخ معنى هو القوة، أما ما نسبغه عليه من فترة لأخرى فليس هراء، وإن كان تمنيات وأمنيات، قد يعود إلى الخلف، بل إلى ما هو أسوأ من الخلف، أو تتعطّل مسيرته، أو تنحرف... إنه مفتوح على كافة الاحتمالات، وليس بالوسع التأكد إلى أين تتّجه مسارات هذه التحولات، ربما إلى الديموقراطية، أو ديكتاتورية أخرى، أو حكومات متشدّدة دينياً، أو متساهلة في حقوق شعوبها لإرضاء الغرب. وبلا شك، يكمن التحدّي الأكبر في هذا الطموح الذي قامت الثورات على أساسه وبدفع منه: هل يمكن للعرب إنتاج مصيرهم الخاص، وهل هو الديموقراطية المعربة، وهي على نمط الغربية، مطعمة بروح اسلامية؟ ليس هذا من باب الفذلكة والتمحّك؛ الشعوب العربية شعوب مسلمة. هل يجوز تجاهل الملايين من أجل بضعة آلاف من العلمانيين والليبراليين وذوي الرأي الحرّ من الملحدين، والذين لا يعجبهم العجب؟ هذا غيض من فيض أسئلة لا جواب عنها. الحرية أربكت الجميع، فلم يعد الحلّ، إلا بالديكتاتورية تحت غطاء من الديموقراطية العسكرية.
المستقبل جرى التوافق عليه؛ الديموقراطية القمعية.