ببساطة شديدة،
ينجح
الفيلم الوثائقيّ "عالم ليس لنا" (2012) لمخرجه مهدي فليفل (1979) فيما تفشل بشكل فجّ، الغالبية العظمى من الأفلام والمواد المرئيّة التي تتعلّق بفلسطين، سواء كانت وثائقيّة مثل "خمس كاميرات مكسورة" (2011)، أو روائيّة مثل "عمر" (2013) و"الصدمة" (2012). لا يلوّن "عالم ليس لنا" الفلسطينيين، لا يشيطنهم، لا يضع فوق رؤوسهم تاج الملائكة، ولا يضعهم مقيدين على خطّ إنتاج بصري ينتهي بتعليبهم كمنتجات معاناة، كأية منتجات أخرى لها تاريخ صلاحيّة. ما يفعله "عالم ليس لنا" هو وضع اليد على ما يحدث فعلاً في واحد من أزقّة العيش الفلسطيني.
يسخّر العمل أكبر كمية ممكنة من الحقيقة للخروج بماهيّة ترقى لمستوى القضيّة التي يشتبك معها، من دون الوقوع في فخّ المبالغات ويثبت لنا، في غير مرّة، تمايزه السياسيّ والجماليّ عن جوقة أفلام الابتذال والموسيقى التصويريّة الحزينة. حتى عنوان الفيلم المأخوذ من عمل غسّان كنفاني الشهير ليس مأخوذاً بغرض الإحالة على راديكاليّة الزمن الجميل والاستمناء على أطلال الوجود الفلسطيني المسلّح في بيروت. تظهر علّة هذا العنوان حين يظهر أبو إياد، وهو أحد "الشخصيّات" المركزيّة، إذ يقوم بفرز ما لديه من كتب وبيانات منظمة التحرير. يمسك أبو إياد ورقة، حوّل الزمن لونها إلى الأصفر، ثم يقرأ "بيان سياسي صادر عن حركة التحرير .."؛ وقبل أن يكمل، يمزّقها ويرميها في النّار. يمسك كتاب غسّان كنفاني "عالم ليس لنا"، يرفعه أمام الكاميرا، ثم يرميه جانباً.
على مدار دقائقه التسعين، يتراوح العمل بين أبطاله الذين يستأجرون العالم ولا يمتلكونه، وبين تسليط الضوء الأبيض، من خلال صوت الراوي مهدي، على "ما تبقّى لهم" من خلال إشارات أرشيفيّة سريعة للتطورات السياسية في الموضوع الفلسطيني خارج المخيّم، لا سيمّا توقيع اتفاقية أوسلو التي سقطت فيها "عين الحلوة"، وكل لاجئي الشتات الفلسطيني، من حسابات القيادة، ولاحقاً، من حسابات صنّاع السينما الفلسطينية التي انحصرت، في معظمها، على ثنائيّة رام الله/تل أبيب.
كان فليفل يريد الخروج بفيلم روائيّ يضيفه إلى قائمة أفلامه الروائيّة ("شادي في البئر الجميلة" (2003)، و"حمّودي وإميل" (2004)، و"عرفات وأنا" (2008)، و"أربعة أسابيع" (2009)). لكن البيئة الاجتماعية لعين الحلوة وطبيعة المواد بين يديه جعلته في النهاية يقرّر تقديم فيلم وثائقيّ عن عائلته في عين الحلوة، جدّه وجدته وخاله سعيد وصديقه أبي إياد الذي انضمّ إلى فتح منذ كان في السابعة من عمره. لقد رسم العمل، إلى حد بعيد، نفسه بنفسه، ولذا فهو تحقيق أمثل للجمال غير المقصود. الجمال الذي يحدث، هكذا، فجأة.
يقوم العمل برمّته على أبطاله، تتجلّى بطولتهم في حقيقتهم ولهجتهم وملبسهم ومأكلهم وفي قدرتهم الباهرة على مقاومة الأثر النفسيّ للكاميرا المسلّطة عليهم، وفي فلسطين الفكرة التي يحملونها مثقلين بها، ومستعدين للموت فداء لها إن حاول البعض أخذها منهم عنوة. الجدّ الذي يرفض الهجرة إلى أولاده في الدنمارك، فتقترح الجدّة تزويد المنزل بعجلات ودفعه بكل ما فيه إلى آخر أوروبا. وسعيد الذي تغيّر وانطفأت روحه بعد استشهاد جمال. وأبو إياد الذي يستأجر كنيته من صلاح خلف، يسبّ الله يومياً، ولا ينسى قراءة الفاتحة على قبور أصدقائه. وأبو الوليد، الجنرال المتقاعد الذي يؤكّد أنّ "إسرائيل" ستنتهي في الحرب المقبلة، ويشتم السيّد الرئيس لتسليمه الشرطة الفلسطينية إلى دايتون ويتساءل بصوت شجي: مش عيب؟
يذكّر مزاج العمل ونكهته السّاخرة إلى حدّ ما بفيلم "الزمن الباقي" (2009) لإيليا سليمان، وبالأعمال الأولى لوودي آلن. فليفل الذي كانوا ينادونه "وودي عرب" في مدرسة السينما لا يُنكر ذلك، بل يشير في معرض حديثه عن العمل إلى تأثُّره بآخرين مثل مارتن سكورسيزي. لكنّ هذا التفاعل الجدلي مع مخرجين غربيين كبار لا يهدّد، حسبما يظهر في "عالم ليس لنا"، فلسطينيّة عينه الإخراجيّة، والنجاح المحترم لقدرة العمل على أن يخاطب الفلسطينيين في كلّ أماكن تواجدهم. الطفل الذي يظهر في العمل وهو يرفع إشارة النصر بيد، ويأكل مكسرات بيد أخرى، والهيستيريا الجماعيّة التي تضرب الفضاء العام كلّ أربع سنوات مع كأس العالم، ومراقبة طائرات "إف 16" من على الأسطح، هذه ممارسات يمكن لها أن تكون في مخيّمات غزّة أو الضفّة الغربية أو الأردن، كما هو الحال في لبنان.
حاز "عالم ليس لنا" على جائزة "اللؤلؤة السوداء" في مهرجان أبو ظبي والجائزة الكبرى في مهرجان الإسماعيليّة ويعكف القائمون عليه على تقديمه للمنافسة في الأوسكار العام 2015. إنّه عمل فنّي بالغ الجودة والحميميّة. قصّة يرويها لنا مهدي فليفل من موقعه كنائب فاعل، عن نفسه، عن عائلته، عن مخيّمه، وعن فلسطين الخالية من الابتذال، من الأسطورة، من البراغماتيّة. فلسطين الشبّاك المفتوح والوعد المعقود مع تلال صفوريّة وجبال نابلس وشواطئ يافا. فلسطين التي نحبّها ونغضب منها ونشتم المتاجرين باسمها وننجح حيناً في مقاربتها، ونفشل حيناً آخر، لكنها تظلّ الخيط الذي يربطنا بعضنا ببعض وبهذا العالم، العالم الذي ليس لنا.
* يعرض الفيلم حالياً في سينما "مؤسسة الفن المعاصر" ويستمر العرض حتى الخميس 27 شباط/فبراير الجاري.