عبّر بعض الأطراف عن خيبة أمله في تعثرالثورات العربية، وعزا أحد أسباب ضعفها إلى عدم إنتاجها زعيماً يقودها في هذا الزمن الصعب، ويساهم في توحيد الجهود نحو هدف واحد. أخلف فقدان القائد نقصاناً انعكس على قوى الثورة ما أدّى إلى تبعثرها، ولا يستبعد انفراطها لهذا السبب. طبعاً في الخاطر كما في التلميح والتصريح، كان مثال عبد الناصر حاضراً، ما دام أن طبعة جديدة ظهرت في مصر للزعيم الذي فجر ثورة يوليو، وكأن التاريخ سيعيد نفسه، من خلال قائد انقلاب مؤهل ليصبح رئيساً للبلاد.
تتصرف الشعوب بناء على خبرات تاريخية سابقة، فهي تبحث واعية وغير واعية عن رمز يفجر طاقاتها الكامنة، وما ظهور الزعيم أو القائد أو البطل، وبمعنى أدق وأشمل الرمز الملهم، سوى استجابة لعجز الشعب، فتسلم قيادها إليه، على نسق ما فعلته الجماهير لزعماء أمثال هتلر وستالين وموسوليني وماوتسي تونغ... وهم المثال المتطرّف للبطل، كان الاعتقاد أنهم جاؤوا ليغيروا مجرى التاريخ نحو الطريق الصحيح، فقادوا بلدانهم نحو الدمار، وما التناوب بين الانتصارات والهزائم التي كللت مسيرتهم، سوى أن شعوبهم دَفعت أثمانها ملايين الضحايا تقدّماً نحو الفناء.
من فرط الإيمان بـ"البطل" وصل الأمر بالشعب، إلى اعتبار "البطل" صناعة إلهية، يتدخل الله من خلالهم ليمنح الحياة معناها، لولاهم لكانت عبثاً يذهب الى الفوضى والعدم، إذ مصير البشرية هو مصير الإنسان في الكون. وهذا ما جعل مفكراً مثل توماس كارلايل يعتقد أن التاريخ عبارة عن مراحل، تُعهد كل مرحلة إلى بطل يسوسها إلى أن يسلّمها للذي يليه. وبذلك تتجلّى مسيرة الإنسان الظافرة في التاريخ.
لم تقتصر البطولة على القادة حملة السلاح مثل نابليون وكرومويل، تعدتهم إلى الأبطال الأسطوريين، والأنبياء، والشعراء والأدباء مثل دانتي وشكسبير، والمصلحين الدينيين كمارتن لوثر وجون كالفن، والمفكرين كفولتير وروسو. حتى أصبح هناك عنوان حضاري صاعد، يحمل دعوة إلى عبادة البطولة على أنها عبادة الله، الذي صنع "البطل"، صانع التاريخ والمتحكم فيه. ولقد بلغ من تأثير هذه النظرة أن مؤلفي كتب السيرة والتراجم، أخذوا يتلمسون العنصر الرباني في شخصية العظيم، بإحالة الموهبة إلى عطية إلهية، والإصرار على فكرة الإلهام، فلم يعدم البطل الصلة بما فوق الطبيعة.
حافظت هذه النظرة على ثباتها على الرغم من الخيبات البشرية بالأفعال الإلهية للأبطال الفانين الذين من لحم ودم، كما أصيبت بضربة قاصمة، وإن لحين، من المادية التاريخية التي اكتشفت ظاهرة الجماهير، وما البطل إلا عرض من أعراضها، إذ أن البطل الفعلي هو الشعب، وما القائد إلا شخص يسارع إلى التقاط اللحظة التاريخية، والتقدم عبارة عن قاطرة يكفي أن يأخذ البطل المتيقظ مكانه في المقدمة حتى يصل القطار إلى المحطة النهائية. أما عمله فضبط قاطرات الركاب، وترتيب الصعود والنزول منها في المحطات المتعاقبة، فالجماهير مهما كانت عظيمة، هي قطيع من العامّة والدهماء والسوقة... تحتاج إلى تنظيم، فهي عفوية، فوضوية، ماكرة، هائجة؛ مجنونة؛ ويمكن أخذ عينة من تصرفاتها الفالتة في مباريات كرة القدم ومظاهرات الاحتجاج، صرخة حمقاء قد تدفعهم إلى القتل، أو حرق مسجد سنّي أو شيعي، أو كل ما يمتّ بصلة إلى المارقين الكفرة.
مصير العالم، وما يطرأ عليه من متغيرات، لم يعد يترك للبطل، ولا للجماهير، ولا للمصادفات. تولت مراكز القرار الخفية مهمة صناعة البطل والبطولة، انتزعت هذا التكليف من القدرة الإلهية، وأيضاً من جماهير لا يحق لها تنصيب قائد عليها، وعدم السماح بمصادفات تشكل ظرفاً تاريخياً استثنائياً خارجاً عن الرقابة. فالبطل لا يجوز أن يصنع في غفلة عنها.
بات الإعلام هو المكلّف بصناعة البطولة وتسويق البطل، فلم يكتف بأن يجعل من رؤوساء ووزراء وخطباء أبطالاً، وهذا من أسهل الأمور، بل شمل تحويل الأبطال المزيفين إلى أبطال حقيقيين وبالعكس، فكان من جملة ما صنع مفكرين وعباقرة ومناضلين وشعراء وروائيين... لا يفتضح أمرهم إلا بعد زمن طويل، هذا إذا تركنا العدالة تسير كما اعتادت ببطء شديد، بحيث عندما تتحقق لا جدوى منها.
لنفكر في أجيال البشر الذين عاشوا أزمنة زائفة، ورحلوا عن هذا العالم فداء لنقاء الجنس الآري، ودكتاتورية البروليتاريا... أو أية فكرة أخرى تحلل القتل. ولنفكر أيضاً في هذه الأيام الحبلى بالمصالح القذرة، والأكاذيب الفاجرة، والفتاوى التي تسوغ إراقة الدماء في سبيل حياة أفضل، مهما كان هذا الأفضل، علمانياً أو دينياً.
فكرة البطل، ليست وهمية ولا واهية، ولا ينبغي خسرانها لمجرد أن مراكز القرار تصنعها، إذ من الممكن انتزاعها منها، من أجل عالم افضل رغم التشوّهات والظلم، فالجانب الجميل منه أسهم فيه الأنبياء وذوي العقول النيرة من المفكرين والمناضلين والمخترعين والشعراء والأدباء... أحياناً على حد المقصلة والسيف، واليوم أمام فصيل الإعدام، وتحت القصف والتهديد بالذبح.