في عيدها الرابع كانت الثورة السورية على موعد مع حزمة جديدة من التصريحات الأميركية المربكة والمرتبكة. رئيس الاستخبارات الأميركية المركزية جون برينان قال في محاضرة في "مجلس العلاقة الخارجية"، احد ارقى مراكز البحوث الأميركية، ان واشنطن حريصة على منع انهيار "الحكومة والمؤسسات السياسية" في سوريا وعدم خلق فراغ تملؤه داعش.
التصريح يفصل بسذاجة بالغة بين بشار الاسد و ما يسميه "الحكومة والمؤسسات السياسية"، من دون ان يعطي اي تفسير عملي لكيفية الفصل في بلاد يختصرها الحاكم بشخصه. وهو تصريح ما لبث ان فهم، في العالم العربي حيث نظرية المؤامرة هي عنصر مكون من عناصر الثقافة السياسية، بانه تراجع أميركي عن سياسة رحيل الاسد.
كلام برينان، أعقبه تصريح مفكك لوزير الخارجية الأميركية جون كيري خلال مقابلة مع محطة سي بي إس الأميركية قال فيه، في معرض اجابته عن سؤال حول استعداده للتفاوض مع بشار الاسد: "لا بد من التفاوض في نهاية الامر" من اجل إتمام الحل السياسي في سوريا.
الخارجية الأميركية علقت على التصريحات بأنها لا تمثل تغييرا في السياسة الأميركية حيال سوريا، وصدر بيان عن الخارجية في أعقاب المقابلة ينفي ان كيري سيفاوض الاسد.
لكن كما برينان، يندرج كلام كيري في سياق تغذية التفسيرات المؤامراتية للموقف الأميركي من الأزمة السورية وسرعان ما تصبح لهذه التصريحات سياقات خاصة في لعبة الصراع بين اللاعبين المحليين في المنطقة ليست هي بالضرورة السياقات نفسها لهذا التصريح او ذاك الموقف.
خطورة الكلام الأميركي ليس في انه يشكل تحولا في السياسة الأميركية حيال سوريا، بل في انه تعبير دقيق عن انعدام السياسة أصلاً. لا سياسة أميركية حيال سوريا خارج ثابتة ان الرئيس الأميركي باراك اوباما لا يريد حربا في الشرق الاوسط ولا يريد تدخلا عسكريا يعمق الأزمة السورية ويفيض بها بشكل اعنف واخطر خارج حدود الكيان السوري.
تصريحات برينان وكيري، بهذا المعنى، هي الرطانة واللغو اللذان تملأ بهما واشنطن الفراغ السياسي الذي يميز موقف إدارة اوباما من سوريا.
والخطورة الأكبر لهذا التخبط الأميركي والارتجال السياسي حيال سوريا انه يَصْب مياهاً كثيرة في طاحونة المشروع الإيراني الذي يقوم على الاستثمار في هواجس الدول العربية وشعوبها والتلاعب بمعنوياتها ومكوناتها بغية دفعها الى المزيد من التطرّف. الأداء الأميركي هو تاكيد لدول المنطقة انها متروكة لوحدها امام التغول المذهبي الإيراني الذي بات يسفر عن وجهه بلا تردد. بل ان أميركا تتصرف وكأنها تتفهم هذا المشروع الإيراني نفسه، وهو ما يعطي خيارات التطرّف أرضا خصبة للنمو في الوقت الذي يُضعف فيه ممثلي الاعتدال السياسي ويقضم من مشروعيتهم في بيئاتهم.
فالثابت حتى الان ان ايران لا تبغي هزيمة داعش، على ما تظن واشنطن في تقاطعها الأخير مع نظام الملالي. بل ان كل ما تقوم به من استنفار أدواتها وعناوينها وصورها المذهبية يعمل على تزخيم بيئة حاضنة لداعش ويعزز مسوغات التطرّف في مواجهة الطغيان الإيراني، بما يعود ويبرر المهمة الإيرانية في محاربة الارهاب، اي الاسم الحركي للاحتلال الإيراني.
نجحت ايران في ادخال واشنطن في دوامة التدوير هذه في اللحظة التي تمر فيها الخيارات الاستراتيجية الإيرانية بتحول عميق ينتقل بها من محاربة الصهيونية الى محاربة التكفير. وها هي ايران على لسان "معجزتها في لبنان"، بحسب توصيف مسؤولين ايرانيين، تعلن انها ليست راغبة في قتال اسرائيل في الوقت الذي تشحذ فيه الهمم لمقاتلة التكفير وتقديم الاثمان الفادحة في الحرب معه. وبالتالي فإيران تحتاج وهي تقدم على تسوية نووية مكلفة مع واشنطن الى اعادة انتاج أعداء جدد يتيحون لها اولا تغطية التفاهم الناشئ مع الشيطان الأكبر سابقا، وثانيا المضي قدما في مشروع هيمنتها على المنطقة تحت مسمى محاربة الارهاب.
في هذا السياق تُفهم وظيفة الخطوات الإيرانية الاخيرة، من وضع الحرب على الارهاب في أوضح إطار مذهبي وصولا الى هدم قبر صدام حسين في تكريت، والذي يأتي استكمالاً لمشهد إعدام صدام صبيحة عيد الأضحى عام ٢٠٠٦ وعلى وقع صرخات "يا مهدي"، في واحدة من أحط اللحظات المذهبية في تاريخ هجوم ايران على المنطقة. ليس هذا دفاعا عن صدام وهو صاحب جريمة مديدة بحق العراق، بل ادانة لمعالجة الجريمة بجريمة، بحق العراق ودولته ومستقبله.
تعمل ايران بهمة عالية على "تجنين" عموم البيئات السنية تمهيدا وتشريعاً لضربها، فيما تقترح بعنجهية على بعض هذه البيئات ان تتحالف معها في ضرب بعضها الاخر. وهي بهذا تؤلف مخرجا لحربها المذهبية على المنطقة، يضع الحرب الأهلية السنية الشيعية في إطار حرب سنية سنية تقف ايران فيها كقوة إسناد مع فريق سني ضد آخر.
تفعلها عبر بعض العشائر السنية في العراق وعبر الحوار السياسي مع تيار المستقبل في لبنان وعبر الاستثمار في احقاد علي عبدالله صالح في اليمن. تصريحات برينان وكيري تفصح عن حجم العمى الأميركي حيال حقيقة وطبيعة المشروع الإيراني، فيما المنطقة كلها تقدم على طبق من ذهب رشوة لإيران لتتنازل عما تحتاج ايران أصلا ان تتنازل عنه لإنقاذ نفسها من الافلاس.
وهذا تكون إدارة اوباما هي العراب الحقيقي للانفلاش الداعشي الذي يسيل له لعاب طهران. فلا وصفة اكثر دقة لتحويل المنطقة الى داعش سوى تخيير شعوبها بين الارهاب الجهادي السني او هيمنة الارهاب الجهادي الشيعي!
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها