من الواضح أن أزمة النزوح السوري في لبنان دخلت مرحلة جديدة سمتها الأساسية تصلّب الاحتقان بين النازحين و"المجتمع المضيف". طبعاً من الضروري التذكير بأنّ أزمة النزوح السوري عمرها اليوم أكثر من خمس سنوات، وهذا وحده كاف، في ظل غياب الآليات الواضحة والإمكانات اللازمة لمعالجة هذه الأزمة إقتصادياً وأمنياً واجتماعياً، إلى تفاقم الحساسيات بين اللبنانيين والنازحين السوريين. وقد أضاف الهاجس الأمني المتعاظم في لبنان بعد تفجيرات القاع وما تلاها من إشارات متكررة، وغالباً من دون أدلة دامغة، إلى وجود خطر إرهابي في تجمعات النازحين، بعداً آخراً إلى الأزمة مؤداه الخوف والريبة لدى فئات واسعة من اللبنانيين من "الوجود السوري في لبنان". ناهيك بالمخاوف الديموغرافية اللبنانية من طول إقامة النازحين السوريين في لبنان بعد تعذر رجوعهم إلى بلادهم بفعل استمرار الحرب فيها. وهذه مخاوف لم تكن بالحجم نفسه في المرحلة الأولى من النزوح السوري.
إذاً نحن أمام أزمة نزوح خطيرة جداً ليس بذاتها بالضرورة وإنما بردات الفعل التي تولدّها، سواء لجهة التحريض من فئات لبنانية ضدّ النازحين ما يؤدي في النهاية إلى إرتكابات أهلية و"رسمية" بحقهم، أو لجهة المكابرة من جانب فئات ومجموعات لبنانية وكذلك سورية، في لبنان وخارجه، على وجود مشكلة تتعلق بعدم قدرة لبنان على احتواء نحو نصف عدد سكانه من النازحين، في وقت يعاني هذا البلد أزمات إقتصادية وسياسية واجتماعية غير مسبوقة حتى في أحلك "الأزمنة اللبنانية".
عليه، الطريق الأسلم والأقصر لاحتواء هذه الأزمة ومنع انفجارها بالنازحين واللبنانيين على السواء هو الاعتراف بوجودها. الإكتفاء بإدانة ارتكابات بعض البلديات وبعض الأهالي ضدّ النازحين من دون الإقرار بوجود أزمة أوجدها النزوح السوري الكثيف إلى الأراضي اللبنانية، لا يحلّ المشكلة لا بل قد يعقدّها أكثر. ولجوء البلديات وأجهزة الدولة المركزية إلى العشوائية في التعاطي مع ملف النزوح أمنياً واجتماعياً يفاقم هذه الأزمة ويزيد من خطورتها.
طبعاً، لا يمكن، لا بل لا يجب السكوت، عن أي انتهاك لكرامة أي نازح سوري في لبنان. لكن السؤال هو في كيفية الإضاءة على هذه الانتهاكات وعن خلفية الجهات التي تتولى هذه الإضاءة. فنبش حساسيات "تاريخية" بين اللبنانيين والسوريين بفعل العلاقة التاريخية المتوترة بين لبنان وسوريا، وإسقاطها على واقع العلاقة بين المجتمع اللبناني والنازحين السوريين اليوم، فيه قفز فوق المشكلة الأساسية والمتمثلة بعدم قدرة لبنان على إدارة أزمة النزوح واحتوائها. كما أنّ الاعتباطية الأهلية و"الرسمية" في التعاطي مع هذه الأزمة فيه قلّة مسؤولية سترتد أولاً وأخيراً على المجتمع اللبناني نفسه قبل أن تطال النازحين.
هنا لا يمكن الحديث عن تسوية بين الفئات اللبنانية والسورية المدافعة عن النازحين من دون الإقرار بالمشكلة التي يرتبها وجودهم المستمر والكثيف في الواقع اللبناني، وبين الفئات اللبنانية "المنفعلة" والمتوترة في التعامل مع هذا الملف الدقيق والخطر. المطلوب معايير وإجراءات واضحة للتعامل مع واقع النزوح السوري في لبنان تفرضها أولاً وأخيراً الدولة اللبنانية بأجهزتها وإداراتها المعنية، وهذا يحتاج إلى توافق سياسي حول هذا الملف يبدو اليوم متعذراً أكثر من أي وقت مضى. فالمسؤولية عن أي ارتكاب تقوم به أي بلدية أو أي مجموعة أهلية بحق النازحين لا تقع على هؤلاء بقدر ما تقع على الدولة المركزية نفسها التي لم تبادر إلى وضع معايير قانونية واضحة لتعاطي البلديات مع النازحين، بل تركت هذا الأمر لـ"ارتجالات" البلديات التي لم تلحظ هي الأخرى في برامجها الانتخابية أي خطط لمعالجة أزمة النزوح ضمن نطاقها، ما يزيد من احتمالات العشوائية في إدراتها لها. والخطورة في هذه المسألة الشائكة أنّ البلديات بعدم أخذها بالضرورات الإنسانية والحقوقية في تعاطيها مع هذه المعضلة تنزلق أكثر فأكثر لتصير جزءاً من المشكلة هذه بدلاً من أن تكون جزءاً أساسياً من حلّها.
وما يزيد من خطورة أزمة النزوح أن السجال في شأنها ليس سجالاً لبنانياً- سورياً حصراً، بل هو سجال لبناني- لبناني أيضاً. وهذا ما يرتّب تداعيات إضافية لهذا الملف على الواقع اللبناني. بمعنى آخر فإنّ "تسييس" ملف النزوح، سواء من جانب المحرّضين على النازجين، أو المكابرين على وجود أزمة نزوح في لبنان، يجعل هذا الملف مادة ابتزازية بأيدي الأفرقاء اللبنانيين المتخاصمين ويصعّب بلورة أي تصوّر عقلاني لمعالجته.
فتوقيف خمسة عناصر من شرطة بلدية من جانب وزارة الداخلية بعد انتشار صور تظهر معاملتهم لعدد من النازحين بما يمسّ بكراماتهم تحوّل إلى عنوان لسجال داخلي يبدو أن أياً من الأفرقاء المعنيين به لا يريد تفاقمه. وهذا في النهاية ما قد يمنع محاسبة هذه العناصر إذا ما ثبت بالتحقيق معها أنّها ارتكبت مخالفة بحق النازحين في هذه البلدية الساحلية بقضاء جبيل.
في المحصلة، نحن أمام تعقيدات إضافية في ملف النزوح السوري في لبنان، فمن ناحية هناك استنهاض للحساسيات اللبنانية- السورية، من جانب سوريين ولبنانيين على السواء، وهذا يفتح الباب أمام تسييس إضافي لمسألة النزوح قد يؤدي في النهاية إلى توترات لا تحمد عقباها بين فئة واسعة من اللبنانيين وبين النازحين السوريين أقلّه في بعض المناطق المعروفة بانتماءاتها الطائفية والسياسية. وهي توترات لا يمكن الجزم بأنها لن تستجلب المشهدية الدموية السورية إلى لبنان. ومن ناحية أخرى هناك تخبط وعدم وضوح في تعاطي الدولة والبلديات مع هذه المسألة ما يعكس عدم إدراكها لخطورتها أو- وهذا أسوأ وأخطر- نية لدى جهات لبنانية لتصعيد ممنهج ضدّ النازحين متصلة بمآرب سياستها الإقليمية والمحلية.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها