الأربعاء 2014/07/23

آخر تحديث: 09:15 (بيروت)

كحك الجيش و شهداؤه

الأربعاء 2014/07/23
increase حجم الخط decrease

منذ عامين، دعيت لزفاف أحد زملاء الدراسة في واحدة من دور للمناسبات التابعة للقوات المسلحة. كان اختيار الزميل الذي ينتمي لنفس الحي المتواضع الذي تنتمي اليه أسرتي بشرق القاهرة، لمكان الاحتفال، علامة مقصودة على صعوده الطبقى الهادئ والمستحق من قاع الطبقة الوسطى إلى شريحتها العليا، مكفولا بشهادته الجامعية وعمله لسنوات بشركة عالمية للبترول. فدور المناسبات التابعة لأفرع الجيش المختلفة، والتي كانت حكرا في الماضي على الأنشطة التابعة لوزارة الدفاع والاحتفالات العائلية الخاصة بالمنتسبين لها، قد تم تمدينها تدريجيا في العقود الماضية باتاحة خدماتها للمدنيين بأسعار منخفضة نسبيا بالمقارنة بمثيلاتها في السوق الخاص، الأمر الذي مكن المنتمين للطبقة الوسطي الصاعدة من ملامسة طموحاتهم، والولوج الى عالم من أبهة المؤسسات العسكرية المحرمة عليهم، و لو ليلة واحدة. لم تخلُ القاعة التي بدت في اتساعها قادرة على استيعاب دفعتنا الجامعية بأكملها، والتي تتجاوز بضعة آلاف، من مناكفات، فاحتكاك بين مجموعة من الحضور وعدد من القائمين على خدمة الموائد، قاد الى تهكم احد المدعوين الذي كان توا قد أنهى خدمته العسكرية باحدى المحافظات الحدودية، سائلا غريمه من العاملين بالقاعة عن صفته: "و حضرتك سلاح أيه في الجيش ؟ التورتة و لا الدي جى؟  ". و بينما أنبرى المجند بمبالغة لا تنفي صدق روايته في سرد معاناته في العمل اثنتي عشرة ساعة يوميا مجانا بالدار العسكرية طوال فترة خدمته، وإن كان تجنيده أنتهى به بالعمل كحلواني صباحا و نادل ليلا, إلا أنه أضاف في سخرية ربما كانت هى الأخطر على الأطلاق منذ بدء المشاجرة، موجها حديثه للمدعو المتباهي بخدمته العسكرية الحدودية:" و حضرتك يا فندم كنتوا بتعملوا ايه على الحدود حررتوا القدس يعني ؟"   

توجز المبارزة الكلامية تلك ما آلت اليه العسكرية المصرية و أزمتها الحالية، فعقب اتفاقية "كامب ديفيد"، وتحييد الجبهة المصرية الشرقية بأخلاء شبة جزيرة سيناء من اي وجود عسكري حقيقي، واجهت المؤسسة العسكرية، أزمة تتعلق بتضخم مواردها و عجزها عن توظيفها. فعبر أربعة عقود من السلم، كان على الجيش تصريف و تدوير موارده البشرية والاقتصادية الضخمة والتي تشمل عشرات الألاف من العاملين بأجر من العسكريين و المدنيين في وزارة الدفاع، ومئات الألاف من المجندين أجباريا، وفوق المليون من قوات الاحتياط قيد الاستدعاء، وتدفقات نقدية وعينية سنوية  بمليارات الدولارات من المعونة الأمريكية, بالأضافة لمخصصات الدفاع  بالموازنة العامة للدولة ومداخيل مؤسسات الجيش الخاصة والتي لا تخضع لأي أشراف من قبل المدنيين و لا للضرائب و الرسوم الحكومية.

دفعت الأزمة  المؤسسة العسكرية الى تحول جوهري في طبيعة مهامها وأولوياتها، بتدجين قطاعات كاملة داخلها في أنشطة أقتصادية ذات طبيعة مدنية صرفة، وبدخول مؤسسات الجيش كمنافس أقتصادي للقطاع الخاص في سوق المنتجات و الخدمات، في مجالات تترواح بين اعمال الانشاءات و انتاج الأجهزة المنزلية، ومزارع الماشية، والصناعات الغذائية ومحطات الوقود وصولا الى الخدمات الفندقية و الترفيهية، ومؤخرا في البحوث الطبية و التي كان فخر انتاجها جهاز "الكفتة" الشهير. وبالتزامن، توسع الجيش في القيام بمهمات الأمن الداخلي، بالوكالة عن وزارة الداخلية من مكافحة التهريب و زراعة المخدرات و الهجرة غير الشرعية و لاحقا في تأمين الانتخابات، بالأضافة الى تحويل عشرات الألاف من المجندين أجباريا، لقضاء فترة خدمتهم العسكرية، في قطاع الأمن المركزي التابع لوزارة الداخلية  (المعني بفض التظاهرات ومكافحة الشغب)، وهي مؤسسة ذات طبيعة مدنية بحكم الدساتير المصرية المتعاقبة، بل مؤخرا تمت دسترة ولاية المحاكم العسكرية على محاكمة المدنيين و توسيع دائرة اختصاصها.

تتجلى اليوم تبعات أربعة عقود من انغماس المؤسسة العسكرية في أنشطة لا تمت لصلة بدورها المفترض، وترهل قطاعاتها، وتضخم مواردها المقرون بفساد اداري واسع يكفله غياب آليات المحاسبة و المراقبة ولو بشكل صوري. ففي الوقت الذي تنتصب فيه لوحة اعلانية في طريق "صلاح سالم"، احد محاور القاهرة الرئيسية، معلنة عن انتاج "افخر أنواع كحك العيد من دار الأسلحة و الذخيرة"، يسقط واحد و عشرون شهيداً من قوات حرس الحدود بواحة الفرافرة، على أثر مذبحة تصفها وسائل الأعلام بالهجوم الإرهابي تارة و بالأشتباك مع عصابة من المهربين تارة أخرى. وفيما تكشف التقارير الأولية المتدوالة في وسائل الأعلام أن عدد المهاجمين لم يتجاوز أثني عشر مهاجما في ثلاث سيارات، سقط منهم أربعة قتلى فقط، فأن أربعة جنود مصابين هم كل من نجوا من الوحدة العسكرية التي قتل أغلب جنودها الخمسة و العشرين ( بنسبة أربعة لواحد بالمقارنة بعدد القتلى من المهاجمين) في نقطة تمركز عسكرية حدودية ثابتة  يفترض جهوزيتها الميدانية واستعدادها القتالي لمواجهة قوات جيش احترافي  لدولة معادية، خاصة وأن نفس النقطة العسكرية تمت مهاجمتها أكثر من مرة, أخرها هجوم منذ شهرين  فقط خلف خمسة قتلى من أفرادها.

أعلن مجلس الدفاع الوطني برئاسة السيسي, في بيان عقب اجتماعه الطارئ، أنه سيثأر لدماء ضحايا "حادث (!) " الفرافرة، و أعلنت الرئاسة الحداد العام لمدة ثلاثة أيام على ارواح الشهداء، و احيل الجنود الأربعة الناجين للتحقيق، ونقلت جريدة الشروق عمن تصفه بالمحلل الاقتصادي " سامح أبو عرايس" اتهامه للدمية "أبلة فهيتا" بالتورط في المذبحة. وبين الحداد والتهديد بالثأر ووصف المذبحة بالحادث، والتحقيق مع "أبلة فهيتا" الذي ربما سيفتحه النائب العام مرة أخرى، يبدو و للأسف أن مزيدا من الجنود الذين ينقصهم التدريب و المعدات و الجهوزية القتالية، سيسقطون ضحايا ماكينة الكحك و الكفتة و سخرة التجنيد الإجباري، فخر العسكرية المصرية و قلب ازمتها.   



  

increase حجم الخط decrease