كان الامر أشبه بقراءة فصول من كتاب قديم للتاريخ، مات أبطاله ونُسيت أحداثه، وباتت استعادتها بمثابة إختبار للذاكرة..برغم ان ثمة نقطة تحول جوهرية في مسار العلاقات بين شعبين وبين دولتين، كاد صراعهما ان يودي بالبشرية الى الفناء في يوم من الايام.
خرقت اميركا وكوبا محرمات عمرها اكثر من نصف قرن، تصرفت فيها قائدة العالم الحر مثل دولة قراصنة تحاصر الجزيرة الصغيرة التي اصرت على ان تحفظ هويتها وكرامتها بثورة شيوعية رائدة في القارة الاميركية التي لطالما كانت فناء خلفياً للقرصنة الاميركية. كانت الماركسية اللينينة وسيلة للدفاع عن النفس من جهة، وذريعة للهجوم من جهة أخرى. لكن البلدين والشعبين استعادا في الساعات القليلة الماضية التي اعقبت الاعلان عن نهاية القطيعة، محطات كثيرة من الصراع المديد بينهما والذي بدأ حتى قبل ان يولد ماركس ولينين.. وربما لن ينتهي.
أخيراً، سلمت اميركا بلسان رئيسها باراك اوباما ان العداء والحصار لم يجديا نفعاً في إركاع الجزيرة التي أتاح لها تمردها المستمر على الارادة الاميركية منذ القرن التاسع عشر، وليس منذ خمسينات القرن الماضي فقط، ان تحتل مكانة خاصة في مخيلة الاميركيين المريضة التي تساهلت مع فكرة المصالحة مع جميع الاعداء والخصوم السياسيين والايديولوجيين.. الا الكوبيين، الذين لا يمكن لاحد ان يزعم ان صفقتهم الجديدة مع اميركا هي وثيقة استسلام، بل مجرد عملية تبادل سجناء وسفراء وخطوة نحو انفتاح مشروط.
لم تقدم كوبا الكثير من التنازلات، خاصة وان موافقتها على فتح ابواب سجونها واطلاق حرية فضائها (الانترنت) ليس تنازلا، بل هي ضرورة لنظامها المغلق ايضا والذي وقع هو الاخر في أسر الصراع مع الجار المعتدي، وما زال يخوض معارك لا تختلف في طابعها الدونكيشوتي عن تلك التي شنها الاميركيون طوال قرنين واكثر على تلك الجزيرة الثائرة. ولعل الاتفاق الجديد مع اميركا يكون فرصة حقيقية لكي يبدأ الاصلاح الذي طال انتظاره في تلك الايقونة الشيوعية، لا سيما وان شيوعيين كثيرين من مختلف انحاء العالم ساروا على هذا الدرب بسلام.
في المقابل، بدا ان اميركا خطت خطوة متقدمة فعلا، سواء في الاعتراف الصريح بانتهاء حالة العداء وبفشل سياسة الحصار، او في الاقدام على المصالحة مع النظام الشيوعي الكوبي، الذي كان في ما مضى أحد ابرز معالم الحرب الباردة، واهم طلائعها المناضلة، ليس فقط في القارة الاميركية بل على مختلف جبهات الصراع بين الشرق والغرب، الذي كاد ينفجر حربا نووية في ازمة الصواريخ الشهيرة في كوبا في ستينات القرن.
لم يكن اوباما قد ولد عندما حصلت تلك الازمة التي حبست أنفاس العالم كله. قال انه يريد ان ينهي ذلك الفصل من التاريخ الذي لم يشهده، والذي لم يعد يحتوي على الكثير من المضامين الايديولوجية، ولا حتى السياسية، في أفقها الدولي، بل صار مجرد صدى لمعارك اميركية داخلية ذات بعدٍ انتهازي حاسم سبق ان عطل الكثير من محاولات الانفتاح السابقة، حتى قبل ان ينزوي القائد التاريخي للثورة وللوطنية الكوبية فيدل كاسترو في عزلته.
حقق اوباما خرقاً مهماً في الوعي الاميركي عندما شق طريق المصالحة مع الجزيرة المتمردة، لكن ذلك الهدف ما زال صعب المنال. هو ينسجم مع شعاره الانتخابي الاول الذي قال فيه ان على اميركا ان تحاور وتصالح آخر اعدائها، وسمى يومها بالترتيب، إيران وكوريا الشمالية وكوبا التي تحتل مكانة متميزة في الذاكرة السياسية الاميركية. لعله أدرك الان استحالة التصالح مع الايرانيين والكوريين الشماليين، فقرر ان يقدم انجازاً نادراً في حساب سياسته الخارجية؟ المؤكد انه انجاز غير مضمون مثله مثل التفاهم النووي مع ايران الذي لا تزال دونه صعوبات ايرانية وتحديات داخلية اميركية جمة.
المهم ان كوبا استحقت بالامس جدارة اضافية في كتب التاريخ التي لم تغادرها أصلا.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها