الإثنين 2024/04/08

آخر تحديث: 10:31 (بيروت)

تحصل في "أحسن العائلات"

الإثنين 2024/04/08
تحصل في "أحسن العائلات"
increase حجم الخط decrease

ضجّت مؤخّرًا وسائل التواصل الاجتماعي اللبنانية والعربية سخرية بشريط مصور قصير يظهر فيه الرئيس نجيب ميقاتي أمام درج الطائرة مستقبلاً رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني. إذ يبدو بأن الأمر قد اختلط عليه عند نزول مساعدة لها قبلها، فاحتضنها مرحّبًا ومقبلاً. وبعيدًا عن سوء الظن، فالقبلة في الأعراف الأوروبية تعني بأن المتقابلين يعرفان بعضهما بشكل جيد، مما يُشير سياسيًا لتقاربٍ بين البلدين من المهم ومن المفيد إبرازه. وقد أعادتني هذه الواقعة إلى استعادة وقائع مشابهة وذات رمزية أشد، إيرادها في هذه العجالة سيظهر وكأنه للدفاع عن جهل الرئيس بضيفته الإيطالية أو تبرير، وهو ما أتحمّل مسؤوليته.  

ففي حفل عشاء رسمي دُعيت إليه مؤخّرًا، وبعد جلوس جميع المدعوين في الأماكن المخصصة لهم، تقدّم مني وزير سيادي في دولة الحفل مبتسمًا برحابة ومرحبًا بابتسامة، تاركًا مائدته ومن معه عليها. ولقد ظننت للوهلة الأولى بأنه كان متوجهًا إلى من جاورني في مائدتي من الشخصيات المعروفة، وإذ به يتوقف أمامي مادًا يده مصافحًا ومرحبًا بكلمات تدفع على الاعتقاد بأنه يعرفني منذ زمن الدراسة. فقابلته بدبلوماسية مرتبكة، ومن ثم استدار عائدًا إلى مواقعه سالمًا دونما أن يُحيّي أحدًا غيري ممن كانوا يحيطون بي. ولقد دفعني هذا التصرف للتساؤل عن سبب ما حصل. فاستنتاجي الأول كان بأن الأمر ربما قد التبس عليه فظن بأنني ضيفً مهم ومعروف، واللباقة تستوجب بأن يُرحّب بي كما فعل. أما التبرير الثاني، فدفعني للاعتقاد بأنني قد أشبه بدقة أحد معارفه. والسبب الثالث والأخير، والمرتبط حتمًا بثقافة الشك التي ترعرعت فيها، فهو أن صورتي تعني له الكثير لأن ملفي يسكن أدراج طاولته كشخصٍ تجب متابعته. وحتى اليوم، لم أحسم موقفي من حرارة سلامه، ولم أقع على تبرير مناسب.

قصة الوزير هذا، أعادتني ايضًا إلى لقاء مجموعة من الباحثين والباحثات في العلوم الإنسانية والمتخصصين بشؤون البحر الأبيض المتوسط استضافته وزارة الخارجية الفرنسية منذ  سنوات، حينما كان موضوع المتوسط ما زال محافظًا على أهميته الإقليمية والدولية. وبعد أن جلسنا في أماكننا، أعلن رئيس الجلسة، بأن وزير الخارجية برنار كوشنير سيحضر قليلا لافتتاح الحوار ومن ثم ينسحب معتذرًا لارتباطه بجدول مواعيد مليء. وعند دخوله ومصافحتنا جميعًا، استهلّ كلمته بالتعبير عن فرحته بلقائنا لأنه، ومنذ أيام، لا يقابل إلا الباحثين في العلوم الإنسانية الذين يكتفون بالتنظير بعيدًا عن إيجاد أية حلول عملية. وأضاف، بأنه سعيدٌ اليوم، لأنه يقابل رجال أعمال ومدراء مؤسسات إنتاجية يساهمون فعليًا ودون تنظير في نهضة المجتمعات المتوسطية. نظرنا الى بعضنا البعض محاولين التأكّد من مشاغلنا واهتماماتنا. وارتسمت ابتسامات سخرية واسعة على محيانا. ويبدو أنه انتبه الى فداحة ما هرف به، أو أن رئيس الجلسة قد همس في أذنه مصححًا، فأعاد النظر في أوراقه، ليعود معتذرًا عن اللغط الذي وقع. ومحمّلاً مساعده مسؤولية عدم ترتيب الأوراق بشكل جيد. وقام بتكرار نفس الجملة أعلاه، مكتفيًا بتبديل المواقع بين رجال الأعمال والباحثين.

ومنذ سنوات ايضًا، دُعيتُ من وزارة الخارجية الفرنسية، مع مجموعة من المثقفين العرب في باريس، إلى حفل غداء على شرف المعلّق المصري الساخر باسم يوسف. وكان باسم قد خرج لتوه من مصر بعد أن قام نظام السيسي بمنع ظهوره على التلفزيون. وقد وصلت الى الموعد في مقر الوزارة ولم يكن الضيف المحتفى به قد وصل بعد. ووقفت اتبادل أطراف الحديث مع صديق باحث مصري من المدعوين. وقد وصل بعد ذلك راعي الحفل، وهو الوزير الفرنسي المكلف بملف حقوق الانسان. وبعد أن القى تحية مشتركة لجميع الضيوف، توجه نحوي ونحو صديقي الباحث، واسع الابتسامة وفاتحًا ذراعيه لمعانقتنا، أو هكذا ظننت. وإذ به يتوقف أمام صديقي المصري متوجها اليه، وباللغة الإنجليزية، بأحر عبارات الترحيب وأرقّها. مُضيفًا بأنه سعيدٌ جدا باستقباله في الوزارة، وبأن يُتابعه منذ مدة في وسائل الإعلام، مُعبّرًا عن اعجابه وتقديره لما يقوم به باسم يوسف وما يُمثّله ايضًا من لغة احتجاجية تستخدم السخرية رداءً. ولقد اختلط الأمر على صديقي الذي ظن للوهلة الأولى بأن الوزير المستضيف يعرفه من خلال ابحاثه ومداخلاته الإعلامية، فأجاب الوزير بلغة فرنسية متقنة، بأنه سعيدٌ ايضًا بهذه الدعوة. وما كان من الوزير الفرنسي إلا أن زاد جرعة الترحيب مُشيدًا بامتلاك الضيف للغة الفرنسية، وهو الذي كان يعتقد بأنه لا يتقن سوى الإنجليزية. وفجأة، ظهر الضيف المعني، فركض أحد مستشاري الوزير لينبهه بأن باسم يوسف قد وصل، فرمقنا الوزير بنظرات أقل ما يقال عنها أنها تحمل الكثير من الغضب، وكأنه يحملنا، أنا وصديقي المصري، مسؤولية اختلاط الأمر عليه.

الضغط الذي يعاني منه رجال السياسة وموظفو الرتب العليا قد يُبرّر لهم أن يخطئوا بالتقدير ويسمح لهم بأن تختلط الوجوه والاسماء في ذاكرتهم. لكن السخرية تكمن في استغراقهم الخوض في حديثٍ مصطنع يحمل اعجابًا ما بأداء محدثهم أو إطراءً لنشاط يمكن لهم أن ينقضوه في مناسبة مختلفة.

 

 

 

 

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها