الإثنين 2024/03/04

آخر تحديث: 09:41 (بيروت)

محاولة فاشلة!

الإثنين 2024/03/04
محاولة فاشلة!
increase حجم الخط decrease

لتُريح نفسك المضطربة من أعباء الأخبار المتراكمة سلبًا، ليلاً ونهارًا، فأنت تسعى، عن وعي ومن دونه، أن تميل لتصدّق الكثير من الأكاذيب المُطمئنة والتي تتناثر حول هذه الأخبار مهما كانت حمولتها ووقاحة مبالغاتها. منها ما هو من نسج الخيال الواسع، ومنها من هو من صنع الإرادة الإعلامية المهيمنة، ومنها ما هو من عمل العقيدة المُسيّرة، ومنها سواه. وبعد سماع الخبر المجرّد آتٍ من مصدرٍ ما، حيث لم تعد مصداقيته من الأولويات في غابة الأخبار والشائعات الورقية والسمعية والبصرية، التقليدية وغير التقليدية، فأنت لن ترضى بالخبر المجرّد هذا، ولن تُعمِل العقل والمنطق في الاستنتاج وفي التحليل لأسباب متعددة ومتنوعة منها: إما ضيق الوقت، أو ضيق الحال الذهني، أو ضيق الحال المادي الذي لا يسمح بتوسيع التلقي ومقاطعة المصادر، أو ضيق الأنفاس التي تساعد صاحبها في التعقّل والتمهّل في الاستنتاج. أنت ـ وأنا ـ غالبًا، ما نبحث عن استنتاجات وتحليلات مطمئنة للمخاوف، مؤكدة للظنون الرغبوية، مُثبتة للاستخلاصات الأوليّة.

ليس من الضروري حصر الحديث هنا في الأخبار السياسية، او تلك التي ترتبط بها، بل يمكن تعميم هذه الحالة إلى أوسع مروحة من الأخبار السياسية والاجتماعية والثقافية والفنية والاقتصادية والطبية والرياضية وحتى العسكرية. وحتى لا يُتهم هذا النص ـ والاتهامات صارت عملة رديئة تطرد كل ما عداها ـ بالتعميم أو عدم التحديد، فلنقف عند بعض هذه الأخبار كأمثلة، الذي حصل منها فعلاً، كما وذاك المتخيّل تعزيزًا لموضوعة النص.

في الحالة السورية مثلاً، هنالك أناس طيبون ومسحوقون ومُنتهكة حقوقهم ومُغتصبة أحلامهم، وهم الغالبية، وما فتئوا يتحدثون، ومنذ اليوم الأول للمقتلة السورية، عن مؤامرة عالمية أحاطت بسوريا الوادعة المزدهرة وأودت بها إلى الحال التي هي عليه اليوم من دمار وخراب مادي ومجتمعي وسواه. هم بذلك، يريحون ذواتهم من التفكير، ولو في ابسط اشكاله، ومن التحليل، ولو في أضعف مستوياته، وفي الاستنتاج، ولو وفي أدنى متطلباته. هم ليسوا من أولئك المنتفعين ولا من المتسلطين. ما هم إلا بضحايا يُساقون إلى مذبح آلهة السلطة صاغرين معتقدين بأنهم في ذلك ينأون بأنفسهم وبأرواحهم عن غيّها. أو هم يرتاحون بأن يكذبوا على أنفسهم أولا، ومن ثم على الآخرين، بتبني رواية مجتزئة من سياقها أو هي كاملة الاختلاق. وعلى الرغم من وضوح الأمر بتفاصيله الموثّقة، إلا أن الهروب الى الأمام صار رياضة من لا رياضة له سوريًا وعربيًا وأعجميًا. فعدا ذاك النافي السوري لحقائق الوضع وأسباب حالة الخراب، هناك العربي الذي سيأتيك بتفاصيل من أفلام المغامرات الفضائية أو من سرديات ألف ليلة وليلة ليقوم بتوصيف الحالة السورية. وعذره هنا أقبح من عذر السوري المهادن، الخائف أو المستفيد حتى. ولم يغب عن ذهني أبدًا ذاك الأخ من بلد عربي شقيق، الذي عاتبني على سذاجتي في نهاية محاضرة لي في عاصمة بلده. وقد صارحني بأنه قد غاب عني بأن من أسباب ما يجري في سوريا هو رفض السلطة لتمرير أنبوب غاز يصل الخليج العربي بأوروبا. فما كان لي إلا أن أضفت إلى قصته الخيالية، خيالاً أوسع، بأن زدته من الشعر بيتًا، مشيرًا إلى نقص معلوماته لأن الأنبوب المزمع كان من المفروض أن يصل إلى سواحل الولايات المتحدة الغربية (...).

وفي الحالة الروسية، وعلى الرغم من جلاء مظاهر التسلطية البوتينية ومختلف الأدلة والوثائق التي تشير إلى المسؤولين عن قتل المعارضين المحليين. كما هي تؤكد مساهمة الجيش الأحمر ـ نسبة للدماء التي يسيلها ليس نسبة الى التاريخ السوفييتي ـ في قتل الالاف من السوريين في بلدهم البعيد آلاف الأميال عن موسكو. نرى عربيًا خصوصًا، وعالميًا عمومًا، بعض من النفي بل وحتى التأكيد بأن أوكرانيا "النازية" هي المعتدي بإيعازٍ من الحلف الأطلسي. وبردة فعل بافلوفية، يقف كثيرون من العرب المصدومين عن حق بموقف الغرب الانهزامي والمتواطئ مع إسرائيل المعتدية، المحتلة، الغاصبة، يقفون مع روسيا في حربها العدوانية تجاه أوكرانيا، مبتعدين عن أي التزام أخلاقي وإنساني يُحدد الموقف. تساندهم في هذا الموقف غير الأخلاقي، معلومات تهطل عليهم من وسائل التواصل المؤمنة بنظرية المؤامرة. هذه النظرية، التي تُساعد بفعالية مجمل المنتمين لفئة محدودي التفكير والتحليل.

في الحالة الفلسطينية، ومع العدوان الوحشي الأخير لقوات الاحتلال الإسرائيلي على غزة، جموعٌ من العرب يفضلون أن "يتفهّموا" العملية الانتقامية الإسرائيلي التي تلت هجوم حماس يوم السابع من تشرين الأول لأنهم، إما يبحثون عن إعفاء الذات من اتخاذ موقف واضح تأييدًا لأصحاب الحقوق، وإما فهم يبحثون عن رضى "الآخر" بحيث يظهرون ملكيين أكثر من الملك. وحينما تُشير لهم بأن التعاطف الشعبي الغربي قد تجاوز ربما التعاطف الشعبي العربي، من دون التطرق إلى التعاطف الرسمي العربي الوقح مع المحتل، فهم سرعان ما سيصفونك بالمؤيد للتطرف الديني الإسلامي.

ليس من المعقول الاستمرار في البحث عما يُرضي النفس الكسولة وغير الراغبة في المواجهة. إنها محاولة فاشلة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها