الإثنين 2024/03/18

آخر تحديث: 06:42 (بيروت)

لا انتقائية في حرية التعبير

الإثنين 2024/03/18
لا انتقائية في حرية التعبير
increase حجم الخط decrease

منذ أشهر، وفي بداية العدوان الإسرائيلي على غزة، تعرّض صحافي ساخر في إذاعة "فرانس أنتر" للنقد الشديد واتهامه بمعاداة السامية قاده للمثول أمام محققي الشرطة نتيجة تعليق ساخر له تناول فيه رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، واصفًا إياه بـ "النازي المختون". هذا الصحافي، واسمه غيّيوم موريس، ذو الشعبية الواسعة لدى المستمعين الفرنسيين، أصدر كتابا منذ أيام يستعرض فيه، بلغته الساخرة المعهودة، ما جرى له أثر تلفّظه بهذه العبارة على أثير الإذاعة خلال تعليقه اليومي على الأحداث. إذ تعرّض إلى هجوم شديد من ممثلي اليمين المتطرف الإسرائيلي، وهم كثر في فرنسا، على الرغم من أنه استهدف رجل سياسة إسرائيلي تُجمع الآراء أنه مشتبه به دوليًا بارتكاب جرائم حرب وبأنه متهم محليًا بقضايا فساد، وعلى الرغم من تناوله شبه اليومي لقادة فرنسيين وعالميين بنفس الدرجة من السخرية، بل وأكثر، من دون أن يرفّ له أو لهم جفنٌ. وردًّا على من اتهمه بإهانة دين بأكمله، وهو الدين اليهودي، ذكّر موريس بأنه وجه سخريته إلى فردٍ واحد يقوم جيشه، وبأوامر منه، بعمليات إبادة جماعية في غزة. وبالتالي، لا يمكن بحال من الأحوال اعتبار هذه السخرية مُعمّمة على أتباع دين بمجملهم. وإضافةً إلى الخضوع لتحقيق أمني اعتبره مهينًا لحقوقه الأساسية، فقد طالبته إدارته، التي خضعت صاغرة للضغوط الصادرة عن مجموعات الضغط المقرّبة من رأس الحكومة الاسرائيلية، بتقديم الاعتذار عما تفوه به على الهواء مباشرة، ولكن رفضه كان حاسمًا وقدّم بدوره شكوى إلى محكمة العمل لحصوله على إنذار إداري.  

الأسبوع الماضي، ومع بدء شهر رمضان، نشرت صحيفة "الليبراسيون" رسمًا كاريكاتوريًا أثار موجة غضب عارمة في أوساط المسلمين والعرب لما قرأوا فيه من استهزاء بألم أهل غزة كما بالدين الحنيف. في هذا الرسم، يظهر طفلٌ غزّاوي يركض وراء جرذان ولعابه يسيل وأمه تنهاه عن أكلها قبل حلول موعد الإفطار. ولقد ادّعت الرسامة، والملقبة بـ "كوكو"، بأنها أرادت الإشارة إلى معاناة الفلسطينيين من الجوع، وفي الوقت نفسه، توجيه النقد الصريح للتشدّد الديني. كوكو هذه، كانت من رسّامي صحيفة "شارلي إيبدو" الذين تعرّض 12 منهم للقتل الوحشي من قبل إرهابيين إسلاميين في كانون الثاني من عام 2015 وسط العاصمة الفرنسية باريس. وبعد نجاتها من المذبحة، خضعت حتى يومنا هذا لحماية أمنية مشدّدة. ومعروفٌ عنها موقفها الراديكالي من الأديان عمومًا ومن الإسلام خصوصًا. وقد سبق لأعضاء في هيئة تحرير صحيفتها الجديدة الليبراسيون والتي انضمت اليها سنة 2021 بأن نبّهوا الإدارة إلى مبالغاتها الجارحة، إلا أنهم لم يلقوا آذاناً صاغية بحجة عدم التدخل في إبداعها.

كان لهذه الحادثة أن تعبر بأقل التأثيرات الممكنة، وكاد الرسم أن يُرمى، هو وذائقته المشوّهة، في أقرب سلة قمامة. إلا أن ردود فعل من اعتبروا بأنهم "أم الصبي" أحالت الأمر الى مسألة "أمن مجتمعي" و "انتهاك حرية التعبير" و "تطرّف ديني إحلالي". ولقد سقط في فخ هذا الرسم العديد من وسائل الاعلام العربية التي تناولته بإسهاب. وقد أشار موقع محطة تلفزيونية معروفة إلى الحدث قائلا "بأن الصحيفة تهزأ من الفلسطينيين الجياع وترسمهم بشكل ساخر". أما صحيفة عربية أخرى، فقد أضافت بأنه "موقف عنصري بحق غزة وأهلها". هل تسرّع الإعلام العربي في إطلاق الأحكام؟ ربما جزئيًا.

وبكل تجرّد، يحار المراقب الموضوعي في الحكم على حمولة الرسم. فهل هو فعلاً يستهزئ بالجوعى ويسخر من مأساتهم؟ أو أنه يُدين، بفشل تعبيري، ما يتعرضون له من حصارٍ ومن تجويع؟ التفصيل الوحيد المجمع عليه هو السخرية مما اعتبرته الرسامة تشددًا دينيًا. وهذه السخرية ليست بحدثٍ جديد، خصوصًا لدى رسّامي الكاريكاتور الفرنسيين الذين يتعرضون بسهولة لمختلف الأديان والمعتقدات. وإن كان الرسم مهينًا فعلاً، فالردود عليه، والتي تميّز بعضها بالعنف وبالدعوة للقتل، أعطته دفقًا من الاهتمام لم يكن أحد يتوقعه. وبعد أن كان منشورًا في صحيفة واحدة لا يتجاوز عدد قرائها ورقيًا والكترونيًا نصف ميلون انسان، صار اليوم مُتناقلاً في مئات الصحف وآلاف المواقع، مما سيتيح له متابعة عشرات الملايين من البشر. لم تكن "كوكو" لتحلم بمثل هذه الدعاية التي من المؤكد بأنها ستخرج بعدها بكتابٍ عنها وعن تبعاتها، لتبيع منه عشرات الآلاف من النسخ.

في الدفاع عن الرسّامة، تكتب اسبوعية "لوبوان" بأن فرنسا تعتبر "حرية التعبير، والتي تتضمن الحق بالرسم الكاريكاتوري، هي الحرية الأسمى". وهذا أمر بديهي لمن يتعرّف على الثقافة السياسية في هذا البلد الذي شهدت ثورته إصدار إعلان حقوق الانسان والمواطن سنة 1789. وبالمقابل، هذه الحرية يجب أن تشمل الجميع وألا تكون انتقائية كما هي عليه اليوم. فمهما كانت اللوحة الساخرة المشار اليها هزيلة الابداع وتافهة الحمولة، إلا أن الحق في رسمها ونشرها هو من ألف باء حرية التعبير. وأيضًا، فالسخرية من رئيس وزراء دولة احتلال واستيطان وتدمير ممنهج وتهجير متعمّد هي أيضًا حرية تعبير، ومن المعيب أن تتعرّض للمساءلة في بلد الثورة الفرنسية.

وفي النهاية، واستنادًا إلى مبدأ حرية التعبير، يصحّ طرح سؤالٍ مركبٍ واستفزازي: إلى متى ستقود السذاجة السياسية وضعف الوعي الحقوقي بعضنا إلى التركيز في الهامشي من القضايا، وتبديد الجهد والوقت، وتأكيد الأحكام الاستشراقية المسبقة التي تتهمنا بتأصّل العنف في ثقافتنا؟ متى سنقوم بنقد وتفكيك عملٍ كتابي أو تشكيلي أو كاريكاتوري، بموضوعية، بعيدًا عن التهديد والوعيد، خصوصًا إن تأكدنا بأن هذا الأسلوب يُشفي غليل "المُتربّصين" بأمّتنا؟ 

 

 

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها