الإثنين 2024/02/26

آخر تحديث: 08:18 (بيروت)

نفاق المثقفين..وازدواجيتهم

الإثنين 2024/02/26
نفاق المثقفين..وازدواجيتهم
increase حجم الخط decrease

مع انطلاقة الثورات العربية في مطلع العقد الثاني من الألفية الثالثة، وخصوصًا عندما بدأت في تونس منتقلة الى مصر ثم ليبيا، بدا واضحًا وقوف المثقفين العرب والغربيين، بشكل لا استثناء فيه إلا نادرًا، مع هذه الثورات او الحركات الاحتجاجية ذات المطالب الإصلاحية او التغييرية. كما إتضح تمامًا أن النخبة العربية المثقفة فوجئت بهذه الثورات واعترفت أغلبها بقراءتها المنقوصة لمسارات التطورات السياسية والاجتماعية والثقافية في بلادها. بالمقابل، فلقد نجحت في ركوب القطار اثناء انطلاقته او بعدها بقليل لتحاول ان تأخذ موقعًا، إن لم يكن قيادياً، فعلى الأقل يمكن له أن يكون توجيهياً. وفي بعض الأحيان، نجحت في ذلك، وفي بعضها الآخر فشلت ولا بل أنها نقلت فشلها الى مجمل الحراك الاحتجاجي وعكسته عليه مما أدى ببعضه إلى الاصطدام بعوائق وخيمة وقاتلة.

إضافة الى المثقفين، كانت هناك مواقف مناصرة لهذه الثورات من قبل قيادات سياسية يسارية، خصوصًا في فلسطين وفي دول المغرب العربي. كما ساندتها مجموعات شبه عسكرية تبنّت مفهوم المقاومة ضد الاحتلالات كما ضد مظاهر الاستبداد في فلسفتها المعلنة قبل أن تُفصح عن عمق تفكيرها المرتبط بمسارات غير محلية. وأكبر مثال على ذلك، هو حزب الله اللبناني، والذي دعم كل الثورات العربية البعيدة نسبيًا عن مسرح نشاطه، بخطابه الرنان، وسرعان ما توقف وانقلب في موقفه ليصبح معاديًا للتغيير فور بدء الثورة السورية. ولم يكتف بذلك، بل انضم الى المؤسسة العسكرية السورية في الاعتداء على المدنيين والثوار متذرّعًا بمحاربة من أسماهم بالتكفيريين، ممهدًّا بذلك، كما ظل يروج له، الطريق إلى القدس الشريف عبورًا من حلب وحمص والقصير. مع الاختلاف في اتجاهات الجغرافيا، إلا أن القراءة الإيرانية لمصالح طهران في الإقليم وجهت البوصلة، واصابت بمقتل صورة الحزب الذي كان جلّ ضحاياه السوريين ممن سبق لهم أن أشادوا بإنجازاته ضد العدو الإسرائيلي، بل وفتحوا بيوتهم ليستقبلوا عائلاته إثر العدوان الإسرائيلي سنة 2006. 

مع العدوان الروسي على أوكرانيا، مال المثقفون العرب عمومًا، عدا متبني المسار الليبرالي، إلى خيارين أحلاهما مرٌّ. فهم إما اختاروا الصمت أو دعموا العدوان متبنين الخطاب الدعائي الرسمي الروسي. ونسي بعضهم بأن موسكو لم تعد عاصمة الاتحاد السوفييتي التي كانوا يهرعون لفتح مظلاتهم فور هطول المطر فيها. وفي أحسن الأحوال، فقد برروا صمتهم تبريرًا بافلوفيًا بامتياز، حيث أنه لا يمكن تأييد ضحية تؤيدها قوى غربية لا تؤيد قضايانا العادلة.

وفي المقابل، كثيرٌ من المثقفين الغربيين الذين ساندوا أوكرانيا ضد العدوان الروسي، خرسوا عن اتخاذ أي موقف ضد العدوان الإسرائيلي على غزة بعد السابع من تشرين الأول / أكتوبر الماضي. بل وانضموا لجوقة المنددين بالضحية والمروجين للقاتل. متناسين بذلك أن يعكسوا موقفهم "الأخلاقي" من العدوان الروسي على أوكرانيا، كما روّجوا له، على موقفهم من الحرب على غزة. ولقد ظهر بوضوح التمييز بين الضحايا بناءً على اعتبارات متشابكة لا تخلو من العنصرية ومن الأحكام المسبقة ومن الدعاية الصهيونية المهيمنة.

نادرون هم من حافظوا طوال الوقت على موقف متناسق ومتجانس مبني على مبادئ وقيم ما فتئوا يتبنونها ويروجون لها. ومن أبرزهم فرنسيًا، الطبيب الجراح، رافائيل بيتي، المتخصّص في جراحة الحروب. فمنذ بدء حرب النظام على المدنيين في سوريا، سارع هذا الطبيب للالتحاق بالمشافي الميدانية عندما تمكن من ذلك، أو أنه قام بتدريب أطباء وممرضين محليين على التعامل مع إصابات الحروب، وصولاً الى قيامه بالتدريب عبر شبكة الانترنت. كما انخرط في معالجة ضحايا الروس في أوكرانيا لينتقل بعدها إلى غزة. ورب قائل يُشير إلى أنه طبيب ومن الطبيعي ان يقوم بما قام به مع جميع الأطراف التزامًا برسالته الطبية. إلا أن رافائيل بيتي ساهم، وبشدة، في تعريف الراي العام الأوروبي عبر شهادات في مختلف وسائل الإعلام، عن حقيقة الأوضاع المأساوية على أرض المقتلة السورية والعدوان الروسي في أوكرانيا والحرب على غزة.

هذا الطبيب الانسان المولود في الجزائر لأسرة إيطالية هربت من النظام الفاشي في حقبة موسوليني، تبنّى علاج ضحايا الظلم والاستبداد والاحتلال. وبمجرد متابعته إعلاميًا، يمكن أن نشعر بإيمانه العميق برسالته عبر نبرة صوته المتهدجّ عند قيامه بتوصيف الحالة المأساوية التي يعبر من خلالها الضحايا. وقد رفض وسام الشرف سنة 2017 والذي يقدمه رئيس الجمهورية احتجاجًا على ضعف الموقف الرسمي الفرنسي من المقتلة السورية.

رافائيل بيتي هو مثال من حالات عدة، أثبت أصحابها من خلال تبنيهم مواقف متناسقة أمام كل الظلم الواقع بالبشر، بأنهم أصحاب مبدأ إنساني وأخلاقي غاب عمّن تناقضوا في مواقفهم لارتباطات إقليمية أو مواقف إيديولوجية صدئة. وأحيانًا، يقوم البعض بدعم قضية عادلة، وبتطرف، لشراء الصمت على مواقفهم الرثّة أو الهلامية أو المضادة لقضية عادلة أخرى. هم إذًا يقومون بالاختيار بما يناسب أوضاعهم ويفضلون أن تكون القضية التي يساندونها تحصل على إجماع أوسع ليكونوا من المرضي عليهم ولا الضالين.

 

 

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها