أظهرت الجموع التي احتشدت في موسكو وسان بطرسبورغ للصلاة صبيحة عيد الأضحى الماضي، أن المسلمين الروس ليسوا خارج سياق "الصحوة الدينية" في سائر البلدان الإسلامية. وقد قُدر عدد الذين خرجوا للصلاة في موسكو وحدها بحوالى 200 ألف شخص، أُقفلت بسببهم شوارع ومحطات مترو ومدارس.
واقترحت دار الإفتاء الروسية على سلطات موسكو تأجيل افتتاح المدارس في الأول من أيلول/سبتمبر إلى الرابع منه، بسبب تطابق هذا اليوم مع أول أيام العيد، مما أثار نقاشاً واسعاً في الصحف والمواقع الإعلامية الروسية حول موعد افتتاح المدارس، وإمكانية تغييره في سائر أنحاء الإتحاد الروسي. وساهمت صحيفة الكرملين في هذا النقاش بأكثر من مقالة عن "عدم جواز المساس بموعد افتتاح المدارس في روسيا"، وعن "التناقض بين العلم والإسلام"، الذي ردت أسبابه إلى السياسة الإستعمارية للغرب.
هذه الحشود، التي أخذت تتكرر في المناسبات الدينية الإسلامية في السنوات الأخيرة، تتجمع في موسكو عند أسوار الكرملين وأمام ناظريه، وهو يدرك جيداً دلالاتها العميقة والحساسيات الدفينة، التي تثيرها في المجتمع الروسي. فهي تجري في موسكو، التي يأبى الكرملين نفسه إلا أن تكون "روما الثالثة"، عاصمة الأرثوذوكسية في العالم، والغارقة بصفتها هذه أيضاً، منذ سنوات، في المقتلة السورية. وكانت تعليقات الروس على حشود المسلمين هذه في موسكو والمدن الأخرى شديدة الدلالة على الآثار السلبية العميقة، التي تتركها في العلاقات بين الشعوب الروسية. فقد كتب أحدالقراء الروس تعليقاً على مقالة في صحيفة الكرملين حول حشود المصلين بمناسبة العيد، يقول "ها هم المحتلون المسلمون يقومون بعراضة قوة جديدة في المدينة الروسية موسكو... بوتين يأتي بهم إلى هنا خصيصاً لترهيب السكان السلاف الأصليين والقضاء عليهم لاحقاً". ويسخر آخر من تعبير "مسلمو موسكو"، ويقول "منذ متى المسلمون هم موسكوفيين؟".
لكن الحساسيات الروسية هذه ليست هي الهاجس الأساسي بالنسبة للكرملين في هذه المرحلة، إذ يتم استيعابها عبر استعادة روسيا مكانة "الدولة العظمى"، وذلك "بإعادة القرم إلى حضن الوطن الأم" والعودة إلى الشرق الأوسط من البوابة السورية. فالمهم الآن هو استيعاب "يقظة الإسلام الروسي"، التي تعبر عنها هذ الحشود، والتي تشكل مشاركة روسيا في الحرب على السوريين أحد أهم أسبابها، وإن لم يكن السبب الوحيد لها.
في اليوم الثالث من أيام عيد الأضحى فوجىء الروس بتظاهرة للمسلمين الروس أمام سفارة دولة ميانمار في موسكو احتجاجاً على " المجازر ضد المسلمين" وصمت العالم حيالها. وعلى الرغم من أن التظاهرة غير مرخص لها، إلا أن السلطات الأمنية الروسية لم تعترضها، بل تولت حراستها، وهي التي تتشدد هذه الأيام حيال أي حركة احتجاج، حتى ولو كانت حركات فردية، وتعتقل القائمين بها، كما حدث منذ عدة أسابيع مع أشخاص قاموا باحتجاجات فردية صامتة وسط موسكو. وأثارت هذه التظاهرة موجة واسعة من التعليقات على وسائل التواصل الإجتماعي، اتسم معظمها باستنكار سلوك الأجهزة الأمنية لسماحها "للغرباء" بالتظاهر في موسكو.
مقدمة برامج تلفزيونية شهيرة معارضة كتبت على حسابها في "فايسبوك"، تقول "... أنا لا أريد أن أرى في منطقتي قطيع متوحشين. نحن لا نقيم مهرجانات في غروزني (عاصمة الشيشان) ولا في ماختشكالا (عاصمة داغستان). نحن لا ننظم احتجاجات من أجل (المعارض) نافالني أمام المساجد. نحن نحترم الأرض الغريبة. لكننا سمحنا للغرباء، للبرابرة، بالتصرف كأصحاب البيت".
لم يشارك الرئيس الشيشاني رمضان قاديروف بالتظاهرة، التي يؤكد الجميع أنه كان يقف وراءها، إلا أنه أطلق، عبر "إنستغرام"، تصريحاُ مدوياً قال فيه "إذا كانت روسيا ستدعم هؤولاء الشياطين (في ميانمار) ، فأنا ضد موقف روسيا". وقد أثار تصريحه هذا موجة عارمة من التعليقات لا تزال مستمرة حتى الآن، رأى بعضها أن قاديروف يضع نفسه في مواجهة بوتين ويعتدي على صلاحياته. لكن بوتين نفسه لم ير في حديث قاديروف اي افتئات على صلاحياته، ورأى أن مسؤولي الوحدات الإدارية والجمهوريات في الإتحاد الروسي يملكون حرية التعبير عن آرائهم.
وعلى الرغم من أن قاديروف نفسه قد عاد لاحقاً ووصف نفسه بأنه جندي مشاة لدى بوتين، إلا أنه قام في اليوم التالي، في 4 أيلول/سبتمبر، بتنظيم تظاهرة في مدينة غروزني، ضمت 1,1 مليون شخص من أصل 1,4 مليون شخص هم سكان جمهورية الشيشان. لم يتحدث قاديروف في التظاهرة، بل تحدث باسمه وزير العلاقات الخارجية وشؤون المطبوعات جانبولاد عمروف، وقال من الكلام ما جعل صحيفة "فيدوموستي" الروسية تتساءل عن الفرق بين رمضان قاديروف وأبو بكر البغدادي. يقول الوزير الشيشاني عن رئيسه رمضان قاديروف "يقف ورائي شخص منَّ عليه العلي القدير برسالة إعلان الجهاد الحقيقي... ولو كان الأمر يعود لنا، لكنا أرسلنا إلى هناك جيشاً تقف طلائعه عند أسوار هؤولاء الفاسقين، وتراقب كيف يهرب هؤولاء الجبناء من الموت، وينتهي هذا الجيش هنا في قلب الشيشان". وكل واحد من هؤولاء المحاربين (المسلمين)، بحسب الوزير، يعشق الموت "أكثر بكثير مما يحب هؤولاء الفاسقون حياتهم الحقيرة". وعن تمنياته لكوكب الأرض يقول وزير رمضان قاديروف "أود لو تهتز السماوات وتتحول الأرض إلى رماد"، كما ينقل عنه المدون الشهير إيغور ياكوفينكو.
أما المعارض المعروف أندرييه بياتكوفسكي، الذي طرد من روسيا نهاية العام الماضي بسبب آرائه في الحرب "الروسية الشيشانية"، المستمرة منذ 200 عام وخرجت منها روسيا خاسرة، بحسب رأيه، فيتساءل في مقابلة مع موقع إخباري روسي عن الجهة التي تخاطبها مهرجانات المسلمين في موسكو وغروزني وماختشكالا، وماذا يريد رمضان قاديروف من كلامه بالوقوف ضد روسيا، إذا وقفت ضد المسلمين. ويجيب هذا المعارض نفسه عن تساؤلاته بالقول، إن ملاحقة المسلمين في ميانمار ليست سوى حجة بالنسبة لقاديروف وليست سبباً لتنظيم هذه المهرجانات. ويعتبر أن ثمة سؤال مشروع يطرح نفسه: لماذا ينظم قاديروف مهرجانات للإحتجاج على اضطهاد المسلمين في ميانمار، ولم تقلقه الإبادة الجماعية للمسلمين السنة في سوريا، التي يرتكبها نظام الأسد في ظل دعم كامل من موسكو وبمشاركتها؟
من جانب آخر، يرى مركز "كارنيغي" الأميركي في موسكو، أن هوية القفقاز الإسلامية ليست محصورة بالزعيم الشيشاني رمضان قاديروف، بل تتعداها إلى سائر الجمهوريات والوحدات الإدارية، التي يتشكل منها القفقاز. ويقول المركز في تقرير له عن الأحداث الأخيرة في ميانمار ومهرجانات تضامن القفقاز مع مسلميها، بأنه تجري الآن عملية "أسلمة القفقاز من جديد"، حيث تنخرط الأجيال الجديدة في العالم الإسلامي، أكثر بكثير مما كان عليه الآباء والأجداد. ويتخذ هذا الإنخراط أشكالاً متعددة تتراوح بين دراسة اللاهوت الإسلامي في الدول الإسلامية الأجنبية، وبين المشاركة العملية في نزاعات الشرق الأوسط.
حيال عملية "أسلمة القفقاز من جديد" هذه، يتبدى قصر نظر القيادة الروسية المركزية من خلال انخراطها في المقتلة السورية، والتي تضع الإتحاد الروسي بمواجهة مصير لا يختلف عن مصير الإتحاد اليوغسلافي السابق، بسبب سياسات الكرملين منذ عام 2014، وليس بسبب صحوة "الإسلام الروسي"، كما يرى المعارض أندرييه بياتكوفسكي.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها