يوم الأربعاء الماضي علّق ثلاثة من أعضاء المجلس الوطني الكردي عضويتهم في وفد المعارضة المفاوض في جنيف، وبحسب ما أعلن الثلاثة أتى تعليق المشاركة جراء رفض وفد هيئة التفاوض "الاتفاق على لغة واضحة في دعم حقوق الشعب الكردي"، محمّلين على نحو خاص ممثلي "هيئة التنسيق الوطنية" مسؤولية الاعتراض على اعتماد لغة جديدة إزاء الحقوق الكردية. ومن المعلوم أن هيئة التنسيق تضم في عضويتها حزب الـPYD الذي أصبح بمثابة سلطة أمر واقع في مناطق التواجد الكردي، وفي مناطق ذات أغلبية عربية سيطرت عليها ميليشياته بدعم من قوات التحالف الدولي حيناً، وبدعم من الطيران الروسي وقوات النظام حيناً آخر، وقد قام الحزب المذكور أيضاً بتعليق عضويته في هيئة التنسيق بسبب خلافه معها إثر إعلانه فيدرالية من جانب واحد في مناطق سيطرته.
كالمعتاد كان تعليق العضوية في وفد جنيف مناسبة لتأكيد ما صار مؤكداً من افتراق عربي-كردي في سوريا، وإذا كان حزب الـPYD قد استبعد من مفاوضات جنيف على خلفية وجود فيتو تركي مشدد حتى الآن فانسحاب ممثلي المجلس الوطني الكردي يعني عملياً عدم تمثيل الأكراد في المفاوضات، وهذا لن يكون سيئاً لهم إلا بالقدر الذي يخفض فيه من المكانة التمثيلية للوفد ككل، فوق محاصرته بمنصات "معارضة" مدعومة روسياً أو حتى مدعومة من النظام. لكن يدرك الجميع، من عرب وأكراد، أن مفاوضات جنيف الحالية لا وزن لها قياساً إلى التطورات الميدانية القادمة، وأن الأكراد لن يُغيّبوا عندما تحين لحظة التفاوض الحقيقية، أو لحظة اقتسام النفوذ النهائية.
يبقى أن أهم ما يشير له الأعضاء الثلاثة المنسحبون من وفد التفاوض مطالبة عرب الوفد بلغة "واضحة في دعم حقوق الشعب الكردي"، وهي مطالبة محقة بالقدر الذي يُفترض أن تفتح فيه الباب على مطالبة جميع الأطراف بما يكفي من الشفافية. إن واحدة من كوارث المعارضة خلال السنوات الست الأخيرة عدم إيلاء القضية الكردية ما تستحقه من اهتمام، مع أن اصطفاف الميليشيات الكردية على الضد من الثورة، إن لم نقل تحالفها الوثيق جداً مع النظام، كان له دور كبير في إنقاذ الأخير داخلياً.
حتى الآن لم تقدّم أية جهة معارضة خريطة طريق لحل القضية الكردية في سوريا، خريطة تكون موجهة إلى الأكراد بقدر ما هي موجهة للعرب. بالمثل، لم تقدّم الأحزاب الكردية خريطة طريق واضحة للقضية الكردية، ولتصوراتها عن مستقبل سوريا ككل، بحيث تكون هذه التصورات متاحة للجمهورين العربي والكردي، وتساهم في فتح نقاش واضح حول القضية الكردية، نقاش لا يتكئ على النوايا أو يحاسب عليها.
قد نرد إحجام التنظيمات العربية والكردية عن الخوض في هذا الملف الشائك إلى قناعتها بأن القضية الكردية ستُرسم خريطتها عبر التدخل الخارجي، وبأن القضية الكردية ليست قضية سورية تُحلّ بين سوريين. وفيما تستند التنظيمات الكردية أولاً إلى مصلحة أمريكية متوقعة تفوق الحرب الحالية على داعش، ومن ثم إلى وعود روسية ووعود من النظام، تستند نظيراتها العربية إلى أن تركيا بكامل نخبتها السياسية لن تسمح بكيان كردي جديد على غرار كردستان العراق، ومن ثم إلى أن إيران داعمة النظام لن تسمح أيضاً بنشوء كيان كردي يشجع أكرادها على تصعيد نضالهم، وربما تستند أيضاً إلى عادة الأمريكان في خذلان الحلفاء الضعفاء بعد استخدامهم.
لكن هذا الاتكاء المزدوج على الخارج يهمل ما يخلّفه الغموض في العلاقة بين الأكراد والعرب، وصحيح أن الحساسيات تفاقمت بسبب الصراع الميداني بين الميليشيات الكردية وبعض فصائل "الجيش الحر" إلا أن حجمها تضاعف بسبب عدم طرح خطاب سياسي مسؤول من قبل أي من الطرفين؛ المهمة التي تقع على عاتق المعارضتين. لن يكون من التجني اتهام جميع الأطراف بالانتهازية السياسية قصيرة النظر، إذ يعمد كل طرف إلى مراضاة جمهوره بالشعارات، وبأقصى الطموحات، دون نظر إلى جمهور الطرف الآخر "الشريك"، وأيضاً دون نظر إلى الواقع الجيوسياسي للبلاد الذي سيحتّم في النهاية عدم حصول أي طرف على ما يشتهيه، إلا إذا تخلخلت التوازنات الخارجية على نحو دراماتيكي.
إن مجرد نظر كل طرف إلى جمهوره فقط يشي بالانقسام الذي لا يُراد إعلانه، مثلما يكرّس بقوة هذا الانقسام ويعد بتحويل القضية السورية نهائياً عن إطارها الداخلي. حجم العنف اللفظي، والمحاسبة على النوايا، اللذين يمكن رؤيتهما على وسائل التواصل الاجتماعي يشيران إلى انقسام كردي-عربي ربما يتفوق على ذلك الانقسام الموجود بين موالي النظام والثائرين عليه، وهذا يقدّم دلالة شديدة السلبية على المستقبل، يفاقم منها جدل سطحي حول إدعاء الأحقية التاريخية لا يستند في كثير من الأحيان سوى إلى الإحساس بالقوة أو الوقوع تحت وهمها من قبل الجميع.
المسؤولية السياسية للمعارضة وللتنظيمات الكردية تتعين على مستويين، المستوى الحقوقي والمستوى السياسي للقضية الكردية، مع الوضوح في مدى التقائهما أو أسباب افتراقهما. فحتى عبارة مثل "حقوق الشعب الكردي" التي يطالب بها أعضاء المجلس الوطني لا تعني شيئاً محدداً قانونياً وسياسياً، إذ لا تحدد ما إذا كان المقصود بها "حقوق الشعب الكردي في سوريا"، ولا تحدد ما إذا كانت تلك الحقوق حقوقاً قومية وإلى أي مدى ينبغي الوصول بها. هذا لا يبرئ المعارضة "العربية" من مسؤولياتها على المستويين الحقوقي والسياسي، إذ لا يصح أخلاقياً تجاهل المستوى الأول، ولو إتجهت النية "أو التوازنات الدولية والإقليمية" إلى المساومة على الثاني. وحتى على المستوى السياسي المباشر، وربما الانتهازية "المطلوبة"، كان ينبغي على المعارضة انتزاع الورقة الكردية من النظام، بخاصة بعدما ثبتت نجاعتها ضد الثورة، وأيضاً في تخويف الجار التركي الذي يضعها في أولويات أمنه القومي متفوقة على تعاطفه مع الثورة.
قبل الثورة كانت المعارضة بأكرادها وعربها تحمّل النظام مسؤولية التباعد بين الطرفين، وكانت أجهزة المخابرات تقوم بهذه المهمة صراحة فتحذّر أي معارض عربي من التعاون مع الأكراد بحجة نيتهم الانفصال، بينما تقول للمعارض الكردي: هل تتوهم الحصول على حقوقك من أولئك المعارضين فيما لو استلموا السلطة بدلاً منا؟ المؤسف اليوم أن توصيات وتحذيرات المخابرات باتت بحذافيرها ما يتردد بين الجمهورين العربي والكردي، دون أن يتذكرا أو يذكّرهما أولئك المعارضين بالمصدر الأساسي.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها