في نهاية كل عام، يعلن قاموس "أوكسفورد" قائمة بالمفردات الإنجليزية الأكثر تأثيراً والتي دخلت حيز الاستخدام العام. لا تتضمن القائمة بالضرورة مفردات تم صكها في العام نفسه، لكن اختيارها يعتمد في الأساس على مدى اتساع استخدامها، ورواج تدوالها، بالإضافة إلى المصداقية التي اكتسبتها معانيها. وفيما تحتفى قائمة "أوكسفورد" بثراء اللغة الإنجليزية وديناميتها القادرة على إفراز مفردات جديدة بشكل دائم، وبمرونتها التي تمكنها من استيعاب أفكار معاصرة، واللحاق بتطورات العالم من حولها على المستويات السياسية والإجتماعية والتكنولوجية وغيرها، فإن مفردات القائمة أيضاً تعكس صعود وهيمنة خطابات وأفكار بعينها، وأفول وتراجع غيرها.
في الشهر الماضي، أعلن قاموس "أوكسفورد" عن قائمة مفرداته للعام الحالي، فجاءت مفردة "ما بعد الحقيقة" Post-truth في قمتها، بوصفها كلمة العام. المفردة التي يعرّفها قاموس "أوكسفورد" كصفة "متعلقة أو دالة على الظروف التي تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيراً في صياغة الرأي العام مقارنة بالإحتكام إلى العواطف والقناعات الشخصية"، تم صكها في العام 1992، في مقال للكاتب المسرحي الأميركي-الصربي، ستيف تيسش، في مجلة "ذا نيشن" الأميركية. وبالرغم من أن مفردة "ما بعد الحقيقة" كان قد تم تدوالها بشكل محدود قبل ذلك التاريخ، للدلالة على حالة ما بعد اكتشاف الحقيقة أو الوصول إليها، فإن استخدامها في مقالة تيسش، أكسبها معنى مختلفاً وأكثر تعقيداً، أي الظرف الذي تفقد فيه الحقيقة مرجعيتها وتصبح بلا جدوى أو تأثير.
جاء اختيار "أوكسفورد" لمفردة "ما بعد الحقيقة"، بعد حوالى ربع قرن على صكها، إنعاكساً للتصاعد الكثيف في تداولها. فقد شهد العام الجاري تضاعف معدل استخدامها في وسائل الإعلام مئات المرات، على خلفية استفتاء الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي والانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة. ارتبط الاستخدام الكثيف لمفردة العام أيضاً بالسياسة تحديداً، ليصبح استخدامها الأكثر شيوعا هو "سياسات ما بعد الحقيقة". والأمر الجدير بالملاحظة في اختيار "أوكسفورد" هذا، هو حساسية اللغة تجاه الاضطراب الذي شهدته الساحة السياسية عالمياً خلال العام الجاري، والذي أفرز سلسلة من المصطلحات المابعدية، ترواحت ما بين توصيف العام بوصفه بداية لعصر "ما بعد الديموقراطية"، و"ما بعد العولمة" وصولاً إلى "ما بعد النيوليبرالية" و"ما بعد التعددية"، وبالطبع "ما بعد الحقيقة".
لكن مفردات اللغة ليست بالضرورة تجسيداً محايداً لظواهر العالم المادي، ولا هي مجرد إنعكاس لتحولاته، بقدر ما تحكم صناعتها وتداولاها افتراضاتٌ إيديولوجية، وهيمنه خطابات بعينها وصراعاتها مع غيرها. فمفردة "ما بعد الحقيقة"، على سبيل المثال، تعتمد على خطاب الحداثة العقلاني الذي يفترض بشكل مبدئي أن السياسية والاقتصاد والعلم وغيرها من الظواهر الاجتماعية، يحكمها المنطق والحقيقة الموضوعية، وهي افتراضات، رغم شيوعها، لا تخلو من أسباب للتشكيك. فهل كانت السياسية الدولية محكومة بالحقائق الموضوعية قبل العام 1992 ومقالة تيسش؟ مراجعة للتاريخ الأكثر حداثة، منذ النصف الأول للقرن العشرين، والذي هيمن عليه صعود الفاشية الأوروبية، ومن بعدها صراعات الحرب الباردة بين يوتوبيا الشيوعية الستالينية واستعمارية الديموقراطيات الرأسمالية الغربية، ولاحقاً عالم القطب الواحد وأكاذيب أسلحة الدمار الشامل لتبرير غزو العراق، وبروباغندا الحرب على الإرهاب في أفغانستان وغيرها، وصولاً إلى الموقف الدولي من الصراع في سوريا على مدى السنوات الخمس الماضية، لا يدع مجالاً لإفتراض مرجعية الحقيقة في الماضي القريب.
في مقال نشرته جريدة الغارديان البريطانية، الخميس الماضي، تعليقاً على قائمة مفردات "أوكسفورد"، بعنوان " لطالما تضمن العِلم بعضاً من ما بعد الحقيقة"، يفند بروفيسور الابستمولوجيا الإجتماعية، ستيف فولر، فرضية عصر ما بعد الحقيقة، بزعزعة فكرة المعرفة الموضوعية في أكثر تصوراتها قبولاً، أي العِلم نفسه. فإذا كانت المعرفة العلمية محكومة بالبنى الإجتماعية والإيديولوجية، وساحة لصراعات الخطابات والمؤسسات، وتجلياً لعلاقات المعرفة-السلطة، فإن الحقيقة السياسية بالتالي تبدو أقل ملاءمة لافتراض الموضوعية.
إلا أن الحقيقة، وما بعدها، ليست مجرد معضلة ابستمولوجية، حول أسئلة المعرفة والموضوعية وإمكاناتها ونسبيتها. فمفردة "ما بعد الحقيقة"، في سياقها الحالي، تكشف عن إشكاليتين أساسيتين. أولاً، يبدو ارتباط التسارع الكثيف في استخدامها على خلفية نتائج الاستفتاء البريطاني والانتخابات الأميركية، إنعكاساً لمركزية غربية، يرى أصحابها الحقيقة واختلالها ربطاً بالشأن السياسي الأوروبي والأميركي المحلي، من دون الالتفات إلى سؤال الحقيقة ومرجعيتها في بقية العالم، ولا حتى عندما يتعلق الأمر بالسياسات الخارجية للغرب في الساحة الدولية. ومن جهة أخرى، يبدو صك مصطلح "ما بعد الحقيقة" وتداوله، مرتبطاً بالمؤسسات السياسية والنخب الثقافية النيوليبرالية، التي جاءت نتائج استفتاءات وانتخابات العام الماضي كضربة قاصمة لهيمنة خطابها وتعبير عن تداعي ثقة الناخبين في جدارتها. هكذا، فإن افتراض ولوجنا لعصر ما بعد الحقيقة، يأتي كحِيلة خطابية لإستعادة تلك الجدارة المفقودة، ورثاء لحقيقة الماضي المفترضة والتي انتجتها تلك المؤسسات والنخب.
في النهاية، فإن المفارقة في تزامن فرضية ما بعد الحقيقة، مع الانتشار المتسارع والكثيف لوسائل المعرفة والتواصل، والتي حملت وعوداً يوتوبية لعصر الحقيقة المطلقة والمعرفة المتاحة للجميع، تبدو تشكيكاً، في أطروحة دخولنا عصر ما بعد الحقيقة، بل وفي فرضية ولوجنا عصر الحقيقة في الأساس.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها