الأربعاء 2023/05/17

آخر تحديث: 11:03 (بيروت)

"ميّلي" إلى الأفعال: رسالة إلى حنّة أرندت

الأربعاء 2023/05/17
"ميّلي" إلى الأفعال: رسالة إلى حنّة أرندت
"امرأة تقرأ" للفرنسي جورج سير
increase حجم الخط decrease
تسألني حنّة أرندت، أين أذهب حين أفكر. أين أصبح حين تضيع أفكاري خارج نطاق جسدي. تسألني، كما تسأل نفسها، عن هذا الانشطار الجسدي-الفلسفي.
لكن يا حنّة العزيزة، قبل سؤالك هذا، أطرح أنا على نفسي سؤالاً محيراً وأخطر: كيف أذهب إن لم تكن الفكرة هي التي أذهب إليها، أو هي التي تحملني صوب السفر-الانشطار هذا؟
والفكرة تلك يا حنّة، من أين تأتي؟ مَن يعطيني مفاتيحها؟ مَن يقدم لي السبل إليها؟
يقول البعض، إنها الكتب. المعرفة تكمن في الكتب.

أذكر حين أعطاني جدّي لأمّي، أول كتاب باللغة الفرنسية، وكنت حينها في السادسة من عمري. أذكر كيف تلوّنت عيناه العسليتان بشيء من الخُضرة، وهو يقول لي من عليائه (فكل طفل يرى جسد شخص ناضج مثل عملاق): "يا جدّي، إذا ما تعلمتي فرنساوي، ما رح يكون إلك محل بهالمجتمع".
طبعا لم آخذ ما قاله لي على محمل الجَدّ. حتى إني لم أفهم قصده. لكني، لأُرضيه، قرأتُ الكتاب. وعلى يده، تعلّمت لغة، ستصبح في ما بعد، اللغة التي بها أعشق.
لم أسأله عن اختياره لهذا الكتاب بالتحديد. لم أسأله حتى لمَ عليّ المرور بلغة، لكي تكون لي مكانة. رحل جدي من دون أن أسأله، ومن دون أن يجيب.

جدّي هذا، كان رجلاً سياسياً بامتياز. يحمل بطاقة الحزب الذي ينتمي إليه ويفاخر بها أمام "الرايح والجايي". حمَلَت بطاقته الرقم 1. والصالون في منزله كان يعجّ بالرجال، مرتين أسبوع. كلهم عمالقة. وكلهم يتقنون الفرنسية. وكلهم أعضاء في الحزب. تقفل جدتي عليهم الباب، بعد أن تتأكد بأن شيئاً لا شيء ينقص من مستلزمات الاجتماعات تلك، ثم تتمتم لي: "لا تقومي بأي حركة مفاجئة. لا تصرخي. سنجلس في المطبخ أنا وأنت. الصالون ليس لنا الآن".
هذا الصالون يا جدي، علّمني أين عليّ أن أقف، حين يجتمع الرجال. علّمني أن الحدود مرسومة سلفاً، حتى ولو أتقنتُ الفرنسية.
الفرنسية تلك، يا جدي، أبقتني خارج أندية الرجال كلها، في ما بعد. بقيتُ حبيسة جمالها. ولم أخرج، لا أنا ولا هي، إلى العام. الكتب، يا جدي، لم تكن كافية لأشارك معرفتي. وعليه، هل أعرف فعلاً ما عليّ معرفته؟ أم أن هناك مَن اختار، نيابةً عني، معرفة تلائم ما سأكونه؟

ما هو الخاص، وما هو العام يا جدّي؟
حنّة تعود مجدداً، لتخبرني بأن الحرية هي فعل سياسي. الحرية ليست فكرة إذاً، وليست لغة نتقنها. ماذا أفعل يا حنّة، بحرية أتوق إليها؟ كيف أحوّلها الى فعل سياسي... وأنتِ أيضاً علّمتِني على ضرورة الفعل السياسي من خلال الفنون.
ماذا أفعل بالفرنسية يا حنّة؟ ماذا تفعل النساء حولي، بما أُعطِي لهن مِن معرفة؟ هل يسألن عن المعرفة، لتفكيكها وإعادة صياغتها؟

في بلدنا اليوم، هناك نساء قرّرن افتتاح مكتبة، تُعنى بالمعرفة الخاصة بهن، في أكثر المناطق حساسية في لبنان، بعلبك. أتعرفين بعلبك يا حنّة؟ نعم، نعم، هي منطقة الحشيش والخارجين عن القانون. لكنها أيضاً من أخطر المناطق تقسيماً جندرياً دينياً عقائدياً ملتوياً مخيفاً، يجعل المرأة رَحماً متنقلاً، علينا دائماً أن نشيح أنظار الرجال عنه.

الفعل السياسي يا حنّة، هو فعل عام، لكنه شخصي أولاً، وسأقول لك لماذا.
أن تخلق المرأة لنفسها مساحة في العام، يعني أن تخرج من الخاص والحميم، حيث حُشرت لزمن لم يعد الزمن يستطيع الرجوع إليه.
حُشرت في المنزل، وقرب السرير، وعليه. حُشرت خلف باب صالون، لتخفي صوتها خلال اجتماعات الرجال، حيث لا مكان لها. حُشرت في الخاص، كي لا يخرج الفعل السياسي هذا إلا الملأ.

هل تدركين ما تفعله النساء اليوم في بعلبك؟ كيف أن فعلهن السياسي، رغم شكله المقسم جندرياً، هو خروجهن الى العام؟ لكن، لحظة، هل عليّ أن أستنهض فوكو من قبره، لكي يخبرنا، مجدداً، عن السياسة والمعرفة ومَن يمتلك الخطاب؟

جدّي امتلك الحق في أن يَهِبني معرفة. وأنا اليوم أحاول جاهدة أن أعيدها إليه في قبره، معترفة بأنه لم يفعل ذلك عن سابق إصرار، لكنه انصاع أمام ما هو "طبيعي" في نظره. أعطِها لغة، يا رينيه (اسم جدي رينيه)، إنما دعها تنتظر وراء الباب المغلق.

اليوم أخبر جدّي بأن هناك نساء (يافعات، عليّ الاعتراف، وهذا ما يخيف فعلاً! أتتخيّلن ماذا سيفعلن بعد 10 سنوات؟)، استطعن أن يسافرن بفكرتهن خارج الخاص بهن. أن يفتحن العام أمام الخاص. أن يتجادلن في الخاص هذا، ليحوّلنه إلى عمل سياسي.
الفكرة إن بقيت في رأسي يا جدي، ستموت من دون أن تسافر بي. وأنا أحب السفر بالأفكار، حيث اللامكان، وحيث العودة منه، هي حُكماً فِعل.

"مَيّلي" هي مكتبة خاصة بالنساء يتم تأسييها في منطقة بعلبك. أربَكَت فكرتُها، الرجالَ والنساءَ على حد سواء. أفهم هذا الإرباك، لأن المكتبة مكان ذو حِياد جندري، والصورة النمطية للمرأة فيه، هي أن تكون "أمينة مكتبة". وأفهم أيضاً بأن كل مكان، في العادة، هو إما "صالون للرجال"، أو "محايد جندرياً"، فيرفض المرور بما هو للمرأة حصراً.

المكتبة ستبصر النور يا حنّة. وسأدعوكِ يوم الافتتاح. لعلّنا معاً، في العام وليس في الخاص، نسافر بأفكارنا حيث اللامكان، ونعود بأفعال. سنصنع الأفعال يا حنّة. وستبتسمين.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب