الأربعاء 2014/07/30

آخر تحديث: 16:07 (بيروت)

الويسكي أو النصر

الأربعاء 2014/07/30
الويسكي أو النصر
من أعمال الفنان السوري جبر علوان
increase حجم الخط decrease

صديقي أبو الريم العراقي، المُعارِض، المنفي منذ سنين طويلة في دمشق يحبّ الويسكي، ويحبّ أن يشتريه بنفسه من السوق الحرّة، لذا فهو يدخل إلى أي مطعم من المطاعم المعروفة بين أوساط المثقفين متأبّطاً لتراً، وسيارته تحتوي بالطبع على العديد من الزجاجات في صندوقها الخلفي.

كان من عادته أن يرسل لي كأساً من الويسكي إلى طاولتي كتحية أبدية لديه، ودائماً كنت أشكره على الهدية كونها تريحني قليلاً من الويسكي المغشوش الذي ينتشر في هذا النوع من المطاعم.

في يوم من أيام العام 2003 إبان الحرب في العراق، وفي خضم هجرة مئات الآلاف من العراقيين إلى سوريا دخل أبو الريم وبصحبته ما يقرب العشرة ضيوف. عراقيون هاربون لتوهم من الحرب، وبالطبع، دخل حاملاً أربع زجاجات من الويسكي الفاخر هذه المرة، عداك عما في صندوق السيارة خارجاً. كنتُ جالساً بصحبة صديقين نشرب البيرة الوطنية الشهيرة (بردى) عندما جاء النادل حاملاً في يده كأساً اعتيادياً من ويسكي أبو الريم. أخذتُ الكأس ورفعتُ نخبه من بعيد، ورفع بعض الضيوف نخبي أيضاً أسوة بأبي الريم، نظر صديقاي وهما صديقان لأبي الريم أيضاً إلى كأس الويسكي في يدي وطالباني بأن أشير لأبي الريم بأن يرسل لكل منهما كأساً أيضاً، فطلبت منهما أن ينتظرا ريثما تلتقي نظراته بنظراتي، ولكن نظرة أبي الريم طال انتظارها، فهو منهمك باللوم والعتاب مع رفاق الدرب الذين انشق عنهم قبل سنوات طويلة ليعيش في المنفى على حد قوله. وبدأت تصفية حسابات قديمة على ما يبدو على الطريقة العراقية المعهودة، أي البدء بالبوح بالأشواق والحنين، والسؤال عن فلان وعن علان، ومن ثم التدرّج في السكر وقرع الأنخاب وتبادل المدائح، إلى النهاية الحتمية بتبادل الاتّهامات والتخوين، ومن ثم استخدام الأيدي في عراكات لا بدّ منها على طاولة ثقافية أو سياسية عراقية.

المهم ما لكم بالطويلة التقت نظراتي بنظرات أبي الريم، فأشرتُ له بإصبعيَّ، السبابة والوسطى، كي يرسل لي كأسين للصديقين المشتركين، ردّ أبو الريم علي بذات الإشارة من أصابعه لكن كإشارة نصر حسب تعابير وجهه. قال صديقي الأول أن أبا الريم فهمها إشارة نصر، ووافقه الصديق الثاني، بينما استبعدتُ الأمر وتوقعتُ أنه يسألني إذا كانا كأسين كي يتأكد، وانتظرنا من جديد ريثما يرسل الكأسين، لكن بلا جدوى. أبو الريم عاد إلى فسحته السياسية العراقية إلى أن حانت منه نظرة إلي فرفعت يدي وحركت إصبعيَّ وأنا أشير بهما كي لا يختلط عليه الأمر، إذ أن إشارة النصر تأتي بأصابع ثابتة دائماً، وأنا تعمدتُ أن يكونا مرتخيين، وما إن رأى أبو الريم إشارتي حتى عاد ورفع يده وأشار إلي بإصبعيه إشارة النصر، فأعدتُ الإشارة وأنا أرقِّص إصبعيَّ كي أزيل عنهما صفة النصر، لكن أبا الريم عاد ورفع إشارة النصر ثم بدأ يحدِّث أصدقاءه عني وعن مدى تعاطفي مع الشعب العراقي، فنظر الجميع تقريباً إلي وحيوني بكؤوسهم رافعين نخبي، فرفعتُ نخبي أيضاً وابتسمتُ مرحِّباً بهم في وطنهم الثاني، أو رصيف الانتظار العراقي لطيارة الهجرة إلى كندا وأوستراليا أو حتى أمريكا التي تحاربهم الآن أو طيارة اللجوء إلى البرد الأسكندنافي، والدمار في المنفى على حد تعبير معظمهم.

غبّ الصديقان من بيرة بردى بلحظة واحدة مستائين من الفيلم الميلودرامي الذي يخرجه أبو الريم حالياً، وضغطا علي كي أُفهمه الموضوع قبل فوات الأوان. فتربّصتُ بأبي الريم من جديد، منتظراً أن يرمقني بنظرة حتى أعاود الكرة، ومن جديد انهمك أبو الريم في نقاش حاد قليلاً ثم رفع عينيه إليّ فرفعتُ إشارة النصر له.. عفواً إشارة كأسَي الويسكي، فرفع أبو الريم يده وأشار بإصبعيه إشارة نصر فولاذية هذه المرة لشدة ما ثبَّت الإصبعين في الهواء، ثم نظر إلى أصدقائه مفسّراً لهم سبب إشاراته إلي. ولربما يكون قد بدأ يحدثهم عني وعن بطولاتي غير الموجودة، وعشقي غير المحدود للعراق والشعب العراقي، إذ أنهم جميعاً التفتوا إلي من جديد باهتمام جدي، قبل أن يعودوا إلى حديث الحرب والسياسة والجواسيس والمخبرين، وحدث أن نظر أبو الريم مجدداً إلي، فرفعتُ يدي وأشرتُ بإصبعيَّ المنتصرين إشارة متحركة، فما كان من الجمع العراقي إلا أن رفعوا جميعاً إشارات النصر بمن فيهم أبو الريم، ورفعتُ بدوري إشارة النصر، وردّاً على الإشارات العراقية المنتصرة العشر رفع صديقاي إشارة النصر أيضاً بِيَد، وهما يغبان كل من زجاجته بيرة (بردى) باليد الأخرى.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب