الجمعة 2023/12/08

آخر تحديث: 16:01 (بيروت)

منقوشة الزعتر الناجية من العولمة والطبقية

الجمعة 2023/12/08
منقوشة الزعتر الناجية من العولمة والطبقية
الفنان اللبناني غازي توتنجي
increase حجم الخط decrease
منذ كان الزعتر ينمو بوفرة في بلادنا الرابضة على ضفاف البحر المتوسّط الشرقية، وهو النبات الأكثر شعبية، والأكثر وفرة في مطابخ الفقراء وسقيفات مؤنهم. شعبيّةٌ استتبعت ولادة منقوشة الزعتر، كوجبة براغماتية قدّمتها قديماً ربّات الأُسَر اللواتي بدأن نهاراتهنّ بالعجن والخبز، لإعداد الفطور لعائلاتهن من حواضر أيديهن الصباحية، حيث أضفن للعجين المختمر زيت الزيتون المنصّب كعماد للنظام الغذائي اللبناني، والزعتر البعليّ المقاوم لعوامل التلف، وقليلاً من السمّاق والملح.


إدراج اليونيسكو لمنقوشة الزعتر في لائحة التراث غير المادي للبشرية، بطلبٍ من لبنان، يأتي بعدما اجتاز هذا الرغيف منقوش الأطراف، اختباراً عصيباً، إثر الانهيار الاقتصادي اللبناني، الذي لطالما استتبع أزمات عظمى على مرّ الزمان.

عنصر راسخ لهوية متذبذبة
نعم المنقوشة راسخة في الهوية اللبنانية، التي يصعب أصلاً الإمساك بها ونقش حوافها وفهم تناقضاتها. إنها لطريقة منطقية لتعريف شيء عصيّ على التعريف، تلك التي تمسك عناصره وتعرّفها فرادى. لذلك لا بدّ من تحديد واضح لهذه العناصر، ومنقوشة الزعتر منها. مع انهيار الاقتصاد وانهيار معالم هوية بلاد بأكملها، أتت هذه الخطوة كانتصار يُهدى لمجهول، لكنه يُرضي كثيرين معنيّين في غالبيتهم بالوجبة ذاتها وحبّهم لها، أكثر مما يعنيهم رسوخ الهوية وتذبذباتها.

رفيقة المجاعات والانهيارات
مع انهيار الاقتصاد اللبناني وهبوط الطبقة الوسطى تحت خطّ الفقر، جاعت البطون، فتاهَت العقول لبعض الوقت، قبل أن تهتدي إلى منقوشة الزعتر، وهي المكوّن الأرخض في الفطور اللبناني، سواء بين نكهات أخرى من المناقيش، أو أطعمة محلّية مثل الكعك بالسمسم والفول والكنافة، أو الأطعمة الدخيلة مثل الكرواسان والدونتس والبان كيك.

ظلّت منقوشة الزعتر، لحُسن الحظ، في حضيض لائحة الأسعار، لكن هذا ليس ما جعلها في قمّة الأطعمة الشعبية، بل طعمها الحميم الآتي من زيتون البلاد وسماقها وزعترها البعليين وغير المستصلحَين. إن خليط الزيت البلدي بجريش السماق والزعتر، يشبه وجبة يشتهيها دمك ويطلبها، كما تفعل خريطتك الجينية المتشابكة مع خرائط أسلافك. وقد توطّدت صداقة منقوشة الزعتر بفقراء بلاد الشام ككلّ، منذ دهور لا تُحصى، لأنّ مكوّناتها قابلة للتخزين الطويل وبشروط بسيطة. الزعتر والسمّاق المجفّفان، والطحين، وزيت الزيتون المحلي، والملح، مواد متوافرة في كل مؤونة ولا تحتاج، كالجبنة والقاورما، إلى شروط مناخية متطلّبة.

أليس من البديهي أن شعوباً تتالت عليها الحروب والمجاعات واختبرت الكساد والجراد والأوبئة عبر العصور المختلفة، أن تُخلص لوجبة أنقذت ذرّيتها؟ ولأنّ الذاكرة الجمعية يصعب أن تنسى المآسي، والجوع بالتحديد، بقيت منقوشة الزعتر راسخة في الهوية اللبنانية، كما وصفتها اليونيسكو.

رغم ذلك، كادت المنقوشة تهوي من أيدي أصدقائها حديثي الفقر، خلال الأزمة الراهنة، حتّى أنّ المراقبين أزالوا عنها صفة "وجبة الفقراء"، لتصير وجبة غالية، بعدما انهارت قيمة الدخل الوطني قبالة سعر الصرف العالمي للدولار.

بعد وقت من عدم الاستقرار والمكابدة، وتلبيةً لطلب السوق المرتفع على الوجبة الأرخص، قاومت منقوشة الزعتر الغلاء عبر خفض جودة مواصفاتها، فلحقها الغشّ في المكوّنات كلها بلا استثناء، حتى توازنت أخيراً وعادت إلى مكانتها الشعبية. اليوم، تباع منقوشة الزعتر بدولار في سوق صيدا الرئيسي، وبنصف دولار في الجية والرميلة، وبأقل من نصف دولار في وادي الزينة وداوود العلي، وهذه مناطق مختلفة الانتماءات، متشابهة الجغرافيا، مشتركة المعاناة المعيشية.

ما لحق بمنقوشة الزعتر من تدني المواصفات، يذكّرنا بأنّ منقوشة الزعتر نفسها ما برحت تتغيّر عبر الأزمنة والأزمات وحتى التبدّلات المناخية (التي تؤثّر في النكهات أيضاً)، ومع تطاحن صانعيها ومستهلكيها.

تلك المنقوشة التي أُدرجت في لائحة التراث، أمس، ليست هي نفسها التي صنعها أسلافنا، بل خسرت الكثير من إرثها، لكنّها ربحت رهان الصمود في وجه الطبقية والعولمة وأخطار محدقة بكل عناصر لقمة العيش.

ما يُحتفى به معنوياً اليوم، هو الرحلة التي خاضها هذا القرص القمحيّ المزيّن بنباتات تجود بها أرض بلاد الشام، الرحلة المضنية التي مضى فيها عبر القرون، وصمد أمام المهجّن والموطّن والمستورد والمعولم، أمام دوناتس أميركا، والبيض مع نقانق بريطانيا، وكرواسان فرنسا.

موائد طبقية
يميّز الأغنياء غالباً موائدهم بترفّعهم عن أطباق الفقراء، وهنا بدأ انتشار منقوشتَي الجبنة واللحم، ليسطع نجمهما. وقد قُدّمت منقوشة الزعتر المسكينة على موائد الأغنياء بأشكال إيكزوتيك، على شكل بيتزا أو تاكو أو لفائف، وزُيّنت أيضاً بخضروات مستوردة... كلّ هذا لتُمحى هويتها الشعبية إلى حدّ يُبقي فقط رونقاً تراثياً من هذه البقعة من ملتقى حضارات العالم القديم التي غزتها الامبراطوريات الكبرى طمعاً في ثرواتها، وبقيت تملك فائضاً من الحنين نحو مستعمريها حتى اليوم.

هذا عن الموائد الفاخرة. أما طبليات الفقراء، فقد كرّر الأهالي حولها أن منقوشة الزعتر تقوي ذاكرة الأطفال وتزيد ذكاءهم. احتاج أولئك الصغار إلى الذاكرة والذكاء في المدارس ليبحثوا عن مكان في المستقبل. فبعد انتكاسة المجتمعات الزراعية وقسوة شروط وريثتها الصناعية، ظهرت المدارس، واحتاج الفقراء إلى نيل الشهادات ليخوضوا مجالات الوظائف الحكومية أو الخاصّة، وقطاعات الطبّ والتعليم والهندسة وغيرها. واحتاجوا أكثر إلى تصديق مسؤولية الزعتر عن الذكاء والتفوّق، بينما كان الفقر بذاته الدافع للاجتهاد والتفوّق... لكنّ تعويذة الأهل نجحت في النهاية.

منقوشة الزعتر، رمز شعبيّ لم يواجه التحقير الطبقي، بل أدار له ظهره واكتفى بناسه. أمّا على صعيد مناطقي، فلم تنجح المحاولات في تغيير منقوشة الزعتر، بين بلدة وأخرى، ومحافظة وأخرى. فليست لدينا منقوشة طرابلسية وأخرى كسروانية وأخرى مرجعيونية. بعكس ما حدث مع البيتزا الإيطالية، حيث هناك مميزات وخصوصيات لبيتزا كل منطقة، ومنافسة تحتدم بين البيتزا النابوليتانية والأخرى الرومانية والصقلية. أما منقوشة الزعتر، موضع التكريم غير المادي اليوم، فبقيت لبنانية، وهو أمر ليس بالهيّن... ما عجزت عنه العقول الفذّة، نجح فيه هذا القرص المتواضع!

لعلّه تنبأ بمستقبلها ومكانتها مَن سمّاها- أو بالأحرى سمّتها- منقوشة. فهي ستبقى منقوشة في يومياتنا العادية البسيطة، التي، بعد اقتراب شبح المجاعة والوباء، دفعتنا للاعتراف بأنّ الذعر من الجوع مقيم في وعينا الجمعي ومنقوش في لاوعينا أيضاً، وفي النهاية لا مفرّ من تجفيف الأطعمة وتخزينها للأيام العصيبة مترامية الأطراف وغير الموثوقة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها