الأحد 2023/09/17

آخر تحديث: 00:07 (بيروت)

ذَهَبهنّ الذي ذهب مع الريح

الأحد 2023/09/17
ذَهَبهنّ الذي ذهب مع الريح
"مفاتيح الحب" للفنانة اللبنانية ألدا شويري
increase حجم الخط decrease
"بعتُ ذَهَبي".. لا تقول امرأة هذه العبارة من دون غصّة. من دون لمعة تشقّ الجمجمة وتخرج من الأطراف المرتجفة. لا شيء يعزّ على النساء مثل بيع ذهبهنّ، مهما كان الدافع قويّاً والهدف نبيلاً. يذهب الذهب- ليس تشابه جذرَي الكلمتين مصادفة- ويُصرَف ثمنه، وتبقى الحُرقة.
يمكن أن تؤرّخ نساء لبنان لعامهنّ الماضي ذاك باسم "عام بيع الذهب". ويبدو أن وقائع ذاك العام ستبقى حاضرة، كبريق الذهب الذي لا يخفت بمرور الزمن.

قبل عام ونيّف، استفحلت أزمة الوقود في لبنان، وأطبقت الظلمة على أهله، وتعفّن الطعام في الثلاجات الحارّة، ودرس الأطفال فروضهم على ضوء الشموع. ظهرت الطاقة الشمسية كحلّ وحيد. حلّ مكلف،لكن لا بدّ منه. توجّب توفير المال ولو "من تحت الأرض". فتحت النسوة، تحديداً معيلات الأسر (مواليد ما بين 1970 و2000) خزائنهنّ وأخرجن الخبيئة التي تعود لثلاثة أو أربعة عقود. بعن ذهبهنّ ليوفّرن الكهرباء لبيوتهنّ، لتعمل الثلاجة والفرن المكواة والغسالة وليدرس الأبناء مساء.

صحيح أنه من المعيب والمحرج، في الكثير من البيئات الاجتماعية اللبنانية، أن تُرغِم الظروفُ النساءَ على بيع ذهبهنّ. لكنّ الأمر خرج من الأيدي، وصار ظاهرة اجتماعية قاهرة. مع نصف ساعة كهرباء يومية، لأي أزمة أفظع قد يدّخرن ذهبهنّ؟ تحديداً بعد انهيار العملة الوطنية والرواتب والتضخم والغلاء المعيشي وضياع الودائع والمدّخرات النقدية.

وصحيح أيضاً أنه كان من المخطّط للذهب أن يُرهن في الظروف القاهرة، ويتمّ تقسيط القرض لاسترداده، لكن حسابات الأسلاف تلك لم تفلح في الأزمة الراهنة، فعائد الرهن لم يعد يكفي، ما حتّم بيع الذهب.

حزن في سوق الصاغة
دخلت المرأة الأربعينية بارتباك إلى متجر الذهب. خشيت أن يعرفها أحد ما ويسألها ماذا تفعل. لنسمّها نسرين، وهو اسم شائع في جيلها.

بعد محاولتين فاشلتين، تشجّعت أخيراً ودخلت المتجر. أخرجت بارتباك من حقيبتها الذهب- هدية خطوبتها- وسألت عن ثمنه. قال الصائغ إنّ عليه تكسيره قبل وزنه.
تكسيره؟
أخفت لمعة عينيها في منديل ورقي وأشارت له أن يفعل.
أخذ شغّيل الصائغ، الذهب، وقال إن عليه حفّه أوّلاً. أحضر قطّارة أسيد وحجراً يشبه المسنّ وراح يغطّ الذهب قطعة قطعة بالأسيد ثمّ يحفّه بالمسنّ ليفحص إن كان ذهباً حقيقياً. أخذه الشغّيل بعد ذلك إلى غرفة مجاورة وسرعان ما ارتفع صوت التكسير. ليس الأمر تكسير أرقام كما في الرياضيات، إنه تكسير حرفي.
راح يضرب الحليّ ليُخرج منها الحصوص التي لا تساوي شيئاً ويُبقي فقط الذهب الخالص. 
نزلت كل ضربة على رأس المرأة وقلبها. نظرت إلى الشارع، فكّرت في الخروج قليلاً، تراءت لها من بين معروضات الواجهة الذهبية، وجوه نساء دامعات متردّدات. قرّرت أن تبقى وتتلقّى أنين مدّخراتها واحتياطها الماليّ الوحيد.
عاد الشغّيل بالذهب الصافي المكسّر، بدا فقيراً. لكن الميزان قال غير ذلك. المبلغ أكثر مما توقّعت منذ قرّرت أن تتبع خطى الكثير من صديقاتها وقريباتها لأجل تركيب نظام الطاقة الشمسية.

منذ أواخر تسعينيّات القرن الماضي، وحتى اليوم، ارتفعت أسعار الذهب 6 أضعاف. ارتفعت كلفة المعيشة بالتأكيد، وانهار اقتصاد بلد بأكمله، لكنّ الذهب كان في المحصّلة ادّخاراً مربحاً.
جمعت الدولارات في حقيبتها مُسلّمة بأنّها فعلت ما يجب فعله.

جدّاتنا والذهب
باع جيل جدّة نسرين، الذهب، لأجل عبد الناصر. بعد النكسة، هرول محبّو القائد العروبي لجمع تبرّعات لجيشه. يقال إن أم كلثوم بدأت الأمر، جمعت وصديقاتها الذهب ثمّ توسّعت الحملة.
في الحرب اللبنانية ارتفع سعر الذهب، لكنّ النسوة تروَّين وبعن بعض ذهبهنّ، فانعدام أفق الحلّ جعلهنّ يتوقّعن ارتفاع الأسعار كل يوم.
حين اندلعت الحرب الإيرانية العراقية، باعت أمّ نسرين وجيلها ذهبهنّ، بسبب الارتفاع الجنوني لسعر الذهب العالمي. تشعل الحروب أسعار النفط، ويشعل النفط أسعار الذهب. تحكي الأمّهات عن تلك المرأة السمينة التي تعسّر خروج أساورها من يدها، فتوسّلت زوجها أن يترك حليّها قائلة: "لعلّها إشارة من الله". عرض الصائغ أساور سلفتها أمام عينيها لتتشجّع. جلب الزوج "بنسة" وقال إن هذا سيؤلم قليلاً. قطع الأساور وباعها.
لعلّها جفلت بينما "البنسة" تخدش جلدها، لعلها دمعت وهي ترى أساورها تقطع أمام عينيها، ولعلّ الزوج قال المتوقّع منه: "اشتريتها لك وسأعوّضك بغيرها". البعض عوّض بالفعل، إلا أنّ الأزمات تفاقمت مع الزمن.

مهور وهدايا عاطفيّة
منذ زمن بعيد استُخدم البشر الذهب كمهر وهدايا خطوبة.
في بيئة نسرين، المهر عبارة عن مُقدّم رمزي ومؤخّر مادي، لن تحصل صاحبته عليه- أو على ما يبقى منه بعد المساومة في المحكمة الشرعية- إلا إثر الطلاق وبالتقسيط. هو بطريقة ما، مال افتراضي.

في عقد الزواج، كتب صهر نسرين لابنتها 50 ليرة ذهب، كمؤخّر، ونسخة من القرآن كمُقدّم. ما عادت العملة الورقية تُذكر في عقود الزواج، رسخ مكانها الذهب. وكعادة أهل المنطقة كان العريس قد اشترى لعروسه طقماً من الذهب هدية خطوبة.

حرفياً يصير "ثمن" الزوجة ذهباً افتراضياً مؤجّلاً، وبالتالي فإنّ الذهب الوحيد الذي تحتكم عليه ربّة الأسرة العتيدة يتمثل في الهدايا التي تتلقّاها، تحديداً في الخطوبة، أو ما تشتريه من راتبها وعائدات أملاكها إن وجِدت. الذهب لا يفقد قيمته، بل يمكن أن يربح مع الزمن، ويمكن رهنه، وهذا استثمار جيّد بدوره. كما أنّ للذهب ميزة كبيرة عند المرأة، إذ يبقى تحت سيطرتها، وفي متناول يدها، على عكس النقود التي غالباً ما يخفيها الرجل أو يضعها في البنك (قبل 2020). وضع الذهب في البنوك مكلف، وبالتالي يبقى في عهدة المرأة، تتولّى إخفاءه أو لبسه وأيضاً توريثه.

الرجال أيضاً يحبّون الذهب
ذهبُ المرأة هو احتياطي الأسرة الذي يوازي احتياطي الذهب في المصارف الوطنية، وقد تصرّفت به النسوة المعيلات بالتنسيق مع أزواجهنّ، وهم في أغلبهم من اشترى معظم ذاك الذهب، هدية خطوبة أو مهراً.

شراء الذهب محبّب للرجل، على عكس الملابس وأدوات التجميل والمفروشات والاستجمام... فهامش الهدر والخسارة شبه معدوم.  بالتالي هو يفضّل أن يكون مهر امرأته أو هدية زواجها أو إنجابها، ذهباً، يحافظ على بريقه وجماله وثمنه. هو استثمار زوجي تشاركي ناجح، فحين يحتاج الرجل إلى معونة، سيجد زوجته تُخرج ذهبها من يديها وعنقها أو خزنتها، وتسنده.

هذا ما فعلته نسرين وشبيهاتها، حصلت لأسرتها على كهرباء. لكن هذه ليست النهاية السعيدة للقصّة، فالطاقة الشمسية لا تعمل ليلاً، ولا في النهارات الغائمة. تلك التضحية الكبيرة حلّت نصف المشكلة. وفي الليل الذي يتبع نهاراً غائماً، لا يبقى لنسرين وكل من بعن ذهبهنّ وهدايا خطوبتهنّ سوى ذكرى لمعة الذهب وسط الظلام.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها