الأحد 2023/12/17

آخر تحديث: 00:50 (بيروت)

مثلّث الحزن.. دائرة البلاهة

الأحد 2023/12/17
مثلّث الحزن.. دائرة البلاهة
"مُغرم بامرأة" - خوان ميرو
increase حجم الخط decrease
بالنسبة إلى شخص، اضطرّ منذ شهرين إلى متابعة حثيثة للقنوات التلفزيونية العربية، بعد انقطاع، قد يدهشه تحديق وجوه فتيّة جميلة تشعّ نضارةً، في قبح الحرب وفظاعة حروق سبّبتها الأسلحة الفتّاكة، من دون أن يرفّ لها جفن، أو تهتزّ تجعيدة، تحديداً صاحبات تلك الوجوه البالغات عقودهن السادسة والسابعة من العمر.

الجفن مشدود كوتر آلة موسيقية مدوزنة، كذلك عضلات الوجه وكولاجينه المرصوص، وتلك المساحة المثلّثة بين الحاجبين، التي تسمّى "العبسة" أو "مثلّث الحزن"، حتّى لكأنّ هذا الأخير قد ابتلعه المحيط كما فعل بزميله مثلّث برمودا!

تُقسم الشاشة نصفَين، فنرى في نصفها الأول المراسلة الفلسطينية وسط الركام والأشلاء، وفي النصف الثاني زميلتها المذيعة -وقد تكون فلسطينية أيضاً- بوجه ينضح عافيةً وصبا في استديو فاخر، وكأنه قطعة من الفردوس بالنسبة لشخص محروم من ماء الشرب والخبز والدواء والأمان... وإذ تتحاور مذيعة الاستديو والمراسلة الميدانية، ندرك أنّنا أمام ساحتي حرب. في الأستديو نشهد انتصار المذيعة على عدّوها البغيض، التقدّم في العمر، وفي غزة نلمس صمود المراسلة في الحفاظ على العمر، وما أصابها في هذا السبيل من جفاف حلق وبشرة وتشقّق شفتين وتضرّر أعصاب من قلّة النوم ووفرة الرعب...

لن تطلب المراسلة من زميلتها أن تزيل مساحيق التجميل والرموش المركّبة، أو توقف جراحات التجميل، أو ترتدي تايوراً من براند لا يموّل الإبادة، فهذا آخر ما قد تطلبه مراسلة يتعرّض وطنها للإبادة. لكن أقلّ ما ستطلبه، ونحن معها، ألّا يتحوّل الخطّ الفاصل بين نصفي الشاشة إلى برزخ من التناقض والعبث، أن نشعر بتفهّم زميلتها في الأستديو لحالها وللدروع والخوذة اللتين ترتديهما، والحداد والاستغاثة في صوتها وعينيها، ونشعر بتعاطف امرأة مع مأساة أهل زميلتها... أن يبدو أنّها ترى الحرب معنا، وأنّ عينيها حقيقيّتان وليستا عدستين من زجاج، وأن تلوح تلك العبسة التي تقرّب الحاجبين وتجهّز الجفنين لتدارك دمعةٍ. التعابير الإنسانية الطبيعية وغير المتكلّفة على وجوه المذيعات البلاستيكية باتت أعلى طموحاتنا في عملية تلقّينا للبثّ التلفزيوني العربي.

صنيعة AI
في أثناء حربها المخيفة مع الشيخوخة، تتحوّل الوجوه النسائية التي تقرأ لنا أخبار المجازر والمآسي والنكبة المتجدّدة، إلى كيانات بلاستيكية محايدة، لا تنفعل إلا ببعض الخدع الصوتية، وتكاد توهمنا بأنها نتاج تقنية الذكاء الاصطناعي، وليست بشراً من لحم ودم.

إلّا أنّ التجارب التي خاضتها شبكات إخبارية مع الذكاء الاصطناعي، فشلت. ورغم تكبّد ملايين الدولارات، عجزت مذيعة الذكاء الاصطناعي عن تأدية دورها والفوز بتقبّل المشاهدين الذين تمّ استفتاؤهم بشكل عشوائي، فحُفظ المشروع الطموح إلى حين العثور على حلول.

ويبدو أنّ استراتيجية هذه الشبكات تشجّع إصرار وجوهها النسائية تحديداً على معاندة الشرط الإنساني -التقدّم في العمر- وهوس مكافحة التجاعيد ومقاومة ذوبان الدهون وترهّل الجلد، وهي حتى لا تقدّر الهوة الصارخة بين مذيعاتها العفيّات النضرات ومراسليها المتهالكين الذابلين.

كلفة الجمال الدائم ومجهوده
بسبب انتشار المعلومات عن علم مكافحة التقدم في العمر(anti-aging) وجراحات الوجه والعنق التجميلية، يقدّر قسم كبير من الجمهور جهود مذيعة الأخبار صاحبة العنق الأملس والوجه النضر اللذين لا تشوبهما شائبة، يقدّرونها كلفةً وجهداً وعزيمة. يقدّرون تقديمها نشرة الأخبار والاتصال بمراسل أو خبير، كما تقديمها هذه الصورة الجميلة والمدهشة عن نفسها. فهذه البشرة الفتية النضِرة تتطلّب رعاية طويلة ومستدامة ومكلفة، إضافة إلى رعاية غير مكلفة لن نهملها من حسباننا. نضارة البشرة تستوجب أموراً بسيطة وشبه مجانية، مثل شرب المياه منخفضة الصوديوم، غسل الشعر والوجه بمياه غير كلسية، وهذه يمكن لفلتر رخيص أن يحلّها، الأكل الصحيّ المتضمّن الخضروات والفاكهة وتجنّب السكر والدهون المشبعة، ثم يأتي العاملان المجّانيان: النوم، والمشي.

لكن، حتى هذه الأمور غير المكلفة تُعتبر رفاهية للمراسلة التي تتوقّع الموت. هذا يجعل المرأتان الزميلتان تبدوان من مجرّتين مختلفتين، لا تحتاجان إلى أقمار اصطناعية لتتواصلا، بل وكالة فضائية. الحفاظ على الشباب والنضارة مكلف، لكنه ليس بكلفة حفلات المطبّعين العرب، وحملات دعم المغتصب، والمساعدات المالية المليارية التي وجهت لخزائنه من حول العالم. والمذيعة لا ترتكب جريمة في حق الضحايا والمشاهدين إن بدت أصغر بكثير من عمرها الحقيقي، وإن كانت تجعل خبر الحرب عادياً مثل نشرة أسعار الخضار الرسمية. المذيعة التي هزمت الشيخوخة بمبالغة واضحة، لا تقتل أحداً، وحقيقة الأمر أنها هي ضحية. فما يدفعها لتحقيق تلك النتيجة، يرتكب جريمة في حقّها. هي ضحيّة الآلة الترويجية العولمية التي تُظهر الشيخوخة كعار، وتمتدح أفكاراً نمطية فجّةً تعتبر جمال المرأة ذخيرتها، وتربط قيمتها بمدى شبابها ونضارة وجهها ونحول جسدها، بعدما صارت كاميرات استديوهات الأخبار تأخذ لقطات بعيدة لجسد المذيعة وواضحة لنصفها العلوي، ما حتّم عليها أن تصير نحيفة، ضيقة الخصر، لأن هذا ما يروج له العالم على أنه من معايير الجمال العصري والتقدّمي.

ثنائيّة الخزي
هوس صاحبات الوجوه التلفزيونية بتجديد الخلايا المتهالكة، وشلّ العصب الهَرِم بحُقَن البوتوكس، وحشو الفراغات التي يسبّبها ذوبان دهون الوجه بالفيلير، تفوّق على رعب طفل من صوت القنابل الفراغية، واحتلّ أكثر من نصف الشاشة. إلى جوار القنابل الفوسفورية، تلمع وجوه شمعية، نجحت في هزيمة الزمن والشيخوخة، ولا يهدّدها بالذوبان سوى الخوف من المستقبل، لأنها تدرك أنّ الاستمرارية بالنتائج نفسها غير مكفولة علمياً حتى الآن.

لكن، ها هنّ القادرات على تحمّل كلفة العلاجات الهرمونية لتجديد البشرة وخلاياها وإعادة إحيائها وتأخير الشيخوخة، تحضيراً لجراحة ناجحة. ها هنّ يقرأن علينا نشرات الأخبار، والأنباء العاجلة ويحاورن المراسلين الميدانيين، وقد تحوّلت وجوههنّ إلى كتل بلاستيكية لا تقوى على التعجّب أو الغضب أو الحزن، بالكاد تنفرج ابتسامة خفِرة في ختام النشرة تشكر المشاهد وهي تستعدّ لمغادرة الكادر.

أما كادر الحزن المثلّث، فسرّه في حُقَن البوتوكس، هي التي شلّت أعصاب أضلاعه. اختفى الحزن ومثلّثه، وتركا نظرة بلهاء على وجه جميل. وكأنه قدَر لا يشيخ هو أيضاً، أن ينجح المتلاعبون بالعقل البشري ومهندسو طرق عيشه واستهلاكه، في ربط جمال المرأة بالبلاهة! ثنائية مخزية تبقينا أسرى دائرة تتجدّد -كخلايا الصبا- كلما حاولنا التذاكي عليها وتخطّيها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها