الثلاثاء 2023/12/26

آخر تحديث: 18:14 (بيروت)

تعويذة لنهاية العام

الثلاثاء 2023/12/26
تعويذة لنهاية العام
Shop Till You Drop" - Banksy"
increase حجم الخط decrease
أليس رائعاً أن يكون لدينا مَن يقدّر تعبنا ويواسينا ونحن نصل إلى ختام عام من عمرنا ونستعدّ لعام جديد؟! مرّ عام صعب، وتمكّنا من النجاة. نحن مُنهَكون إلى درجة نستحقّ معها إجازةً وأعياداً وسانتا كلوز وتنزيلات وهدايا وتبرّعات وصدَقات...

ولكن! رغم التعب، يصعب أن نصدّق أنّ الآلة المتحكّمة بمصائرنا قد تمنحنا شيئاً بالمجّان. يجب أن تُوضع النقود في ماكينة الرأسمالية العملاقة لتعمل وتُعطي، ولو علكة. نظام عالمنا محكوم بالاستثمار وأخلاقياته (اللا-إنسانية غالباً) وهو يستغلّ "نهاية العام" ليبيعنا بضاعة عجيبة تتعطّش لها أرواحنا قبل أجسادنا: تحسين المزاج والثقة في بلوغ العام الجديد. مثل أي سلعة أخرى، علينا أن ندفع الثمن، وهو هنا غير مباشر، نسدّده عبر شراء سلعة "وسيطة"، طيّعة للغاية. قد تكون لفّافة ورق عنب أو غسّالة جوارب. فلنشترِ أيّ شيء، من دون الحاجة إليه بذاته، فقط لنشعر بأنّنا نملك النقود والقدرة على المبادلة ووهمَي المفاضلة والاختيار.

هوس السلع الغامضة
الرضا إذاً هو سلعتنا المشتهاة. سلعة ينطبق عليها وصف ماركس، تبدو للوهلة الأولى تافهة وعادية، ثم سرعان ما تميل للغموض، وتتعقّد علاقتنا الاجتماعية بها حدّ الهوس. من طقوسنا البشرية أن نتداوى نفسياً وعاطفياً بالشراء، نحسّن نفسيّتنا ونكافئ أنفسنا باقتناء السلع، نوثق أو نُصلح علاقتنا بالآخرين عبر المِنَح والهدايا، حتى علاقتنا بالربّ نوطّدها عبر التصدّق والإنفاق، من التبرّع بربطة خبز للمسجد، إلى بناء كنيسة.

الشراء يحلّ الكثير من مشاكلنا، إن لم تكن غالبيتها. في مسألة "هوس الشراء"، تبرز نهاية العام كمثال قويّ ومهيمن إلى درجة أنها تبدأ قبل شهر كانون الأول. فيوم الجمعة الأخير من شهر تشرين الثاني، يشهد ظاهرة "بلاك فرايدي" التي لم تأتِ من عتمة أو فراغ، بل تحلّ في الشهر الذي يلي شهر العودة إلى المدارس المكلفة وبداية موسم الشتاء الباهظ. كما تسبق الظاهرة "السوداء" تلك، شهر الأعياد الذي ينتظره المروّجون لطرح تشكيلات جديدة، خارج التنزيلات، لن تناسب السواد الأعظم، لذا لا بدّ من تقديم إغراء كبير جداً ليُخرج أصحاب الميزانيات الصغيرة ما في جيوبهم ولا يكتفوا بدور المتفرّج الشبيه بيتيم العيد. لذا كان موسم التسوّق الذي يبدأ "بالجمعة السوداء"، ويُختم بتنزيلات نهاية العام.

بعد تلك الأيام "السوداء" التي حفظنا عن أجدادنا أن ندّخر لها قروشنا البيضاء، ومن دون أن تتبقى لنا بالضرورة قروش ذات وزن، تستعر حمّى التسوق كلما اقتربنا من بداية العام الجديد. لقد أكملنا المشهد بإتقان، المناسبة الشعبية الدينية لها طقوسها الاستهلاكية وهي تنشّط العجلة الاقتصادية مهما بلغ ركودها سوءاً على مدار العام. زينة برّاقة وألوان مُبهجة وتنزيلات وإغراءات وسلع مجّانية وكوبونات لسحوبات كبرى... مَن يملك أن يقاوم؟

عيدا الميلاد ورأس السنة الميلادية يؤثّران في الكثير من الطرائد الاستهلاكية، لكنهما لا يُرضيان جشع غيلان التجارة. ينشط العقل التسويقي لقنص المزيد من المستهلكين، مصوّباً ببراعة على طريدته المُحاصرة والسمينة: مُواطن مطلع الألفية الثالثة الهشّ، المثقوب بالتناقضات (كل ثقب في كيانه هو إشارة جاذبة للتهديف) اللاهث خلف الراتب والإنفاق، المقترِض والمبذّر، المولع بتحقيق أهداف كمالية وإهمال أخرى أخلاقية، المُستعبَد من قِبل كرسّيه، حبيس جدران وظيفته، والثائر على السمنة والاكتئاب.

علاج للضغوط
نعم التسوّق يحسّن المزاج، ويتحوّل هوساً مع نهاية العام، أكثر الأوقات ضغطاً على الأعصاب والنفس. لكن مهلاً! مَن يأتي أوّلاً؟ المزاج السيء أم التسوّق؟ هل نتسوّق لأنّ روحنا متعبَة ومزاجنا سيّء؟ أم ثمّة ما يتعمّد تعكير مزاجنا لنتسوّق؟

مدبّرو أحوالنا لا يغفلون أيّ تفصيل. دَفعُنا إلى حافة الجنون ليس خطأ أو مصادفة. ثمة أسواق لا بدّ أن تعمل الآن. أسواق الصبا والديتوكس والزومبا والتأمّل والمكمّلات الغذائية واليوغا وبراندات الملابس الشهيرة التي ترفع المعنويات وتوهم المستهلك بالارتقاء الاجتماعي الطبقي. لذا ليس علينا أن نُصدم لأنّ مدينتنا النامية لا تملك حدائق عامّة كافية، ولا شواطئ شعبية، وفسحات ترفيه مجانية، ولأنّ كل خطوة فيها مكلفة. أي تنفيس لن يُمنح لنا بالمجّان! حتى الهواء ليس بالمجان. "شمّ الهوا"، طالما تطلّب استخدام سيّارة في أضيق الحدود، وطائرة في أبعدها. هو هواء نفيس لأنّه يغيّر المزاج ويخفّف الضغط. وبالحديث عن الضغط، أليس مريباً حقّاً أن تبرز بين مواصفات الوظائف المتروكة لنا وشروطها عبارة "العمل تحت الضغط الشديد"؟

لكن، تهانينا! لدينا بشرى سارّة بعد كل ذلك الضغط: في نهاية العام، سنحظى بإجازة وتنزيلات وعروض وأكثر. إن كنا من المحظوظين الذين احتفظوا بعَمَلهم مع نهاية هذا العام العصيب، علينا القيام بجردة المؤسّسة السنوية، وأيضاً جردتنا الذاتية. جردة في حجرة عقلنا وعائلتنا وبيتنا. كلها كبرت سنة، وهرمت سنة. المطبخ يحتاج فرناً جديدً، سقف الشرفة اهترأ، والابن يريد بلاي ستيشن واشتراكاً سنوياً في نادٍ رياضي.

نحمل محافظنا من بيوتنا الكئيبة ونمضي نحو السوق، ونشتري. ندفع أي ثمن، لأي شيء. نعود إلى البيت حاملين تعويذة لطرد الحزن والهموم، طالما ساندتنا "التنزيلات". إنّها تفهم لغة أرواحنا، بل تتحدّث بها، حدّ إقناعنا أنّها لم تُخترَع لأجل الأعياد، بل هي التي اخترعت الأعياد لأجلنا! تساعدنا على تصريف أحزاننا وهمومنا وتدويرها، تشغل وقتنا العصيب بأمور سعيدة صغيرة، مثل شراء هدايا للأطفال وزينة لشجرة العيد، وحلوى، الكثير من الحلوى التي ترفع النشاط والأدرينالين. وإن كان ما يترسّب من سكّر في أجسادنا سيتحوّل سموماً تسرّع وتيرة هرولتنا نحو الشيخوخة والمرض والتعب، فسنحاول التعافي من ذيولها بعد العيد... بالتسوّق أيضاً.

سنذهب إلى عام جديد، وعلينا التخفّف من فوضى العام الماضي. كتب اشتريناها ونؤجل قراءتها كل عام، ملابس نهمل ارتداءها، أدوات تعطّلت ونأمل أن تعمل مجدّداً... الحمولة الثقيلة تُعيق تقدّم أيّ مركبة. حمولة التعب والحزن والخيبات أيضاً. فلنتخفّف منها. فلنخرج للتسوّق ونستسلم لهوسه المُداوي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها