الأربعاء 2023/12/20

آخر تحديث: 14:17 (بيروت)

نساء بيضاوات وملوّنات لا يشبهننا

الأربعاء 2023/12/20
نساء بيضاوات وملوّنات لا يشبهننا
"الأم وابنتها" (1983) للفنان الفلسطيني سليمان منصور
increase حجم الخط decrease
لا مكان لنا. أهرب من هذه الفكرة، فتلاحقني حتى الصداع. أفتح باب سيارتي، أنظر إلى سياج الحديقة المكسور الذي يفضي إلى طريق خلفي مهجور، أحاول تخيّل سيناريوهات القتل المحتملة كلها. "نحن في أمانٍ هنا"، يقول صديق. في أمان؟ أين وكيف؟ في أمانٍ ممَّ؟ من الصور المذهلة في قسوتها التي تسقط علينا كل يوم ولا يراها جيراننا -عمدًا لا يرونها لأنهم لا يروننا أصلًا؟ من جرائم الكراهية المنتشرة؟ أم من لفظنا لحروف لغة قد تأخذ متحدّثها في مكان عام إلى خبر كان؟

أعرف مشاعر مَن عاشوا محاكم التفتيش، أعرف تمامًا كيف ابتلعوا ألسنتهم. زملاء كثر نصحوني بذلك، لكني لا أعرف كيف أبتلع لساني أنا أيضاً. هو يصرخ في كل مكان، ينطلق منه أنين مدوٍّ، أنين العالقين تحت الردم وتفجّع النساء على أطفالهن حين يقلن "يُمّا". كيف نجحوا في اصطياد أحلامنا واحدًا بعد الآخر؟ ولماذا لا يحق لنا أن نقلق على كل سخافات الدنيا من نوع: ماذا سنرتدي اليوم، وماذا سنأكل، وأين سنمضي الأعياد؟ لماذا تؤذينا الأضواء وتجرحنا الابتسامات؟

يطالعني خبر عاجل: الجمعيات النسوية في أميركا تدعو الى التحقيق في اعتداءات جنسية قد تكون إسرائيليات قد تعرضن لها عند أَسْرِهن من قبل حركة "حماس". على افتراض أن هذا صحيح، رغم أنه لا أدلّة ولا إثباتات حتى الآن، فماذا عن النساء الفلسطينيات المسحوقات، والسائلة دماؤهن على بلاط المستشفيات؟ ماذا عن جوعهن وتشرّدهن وخوفهن؟ ماذا عن حياتهن وحياة عوائلاتهن الممزقة بأسلحة الدنيا الذكية والغبية كلها؟

لا مكان لنا، ببساطة. هكذا تدور الأرض بوجوه نساء بيضاوات وملوّنات لا يشبهننا. يطلقن على أنفسهن لقب ناشطات "مسلمات"، هنا في أميركا، ولا يأخذن موقفًا واحدًا إلا اذا كان مقبولًا من الستاتيكو القائم. يتحدثن عن تمكين المرأة والمساواة، وتردد كلامهن كالببغاوات نساء في العالم العربي. ناشطات "لايت" يخدمن "الصوابية السياسية" بوفاء، ويوجهن السهام نحو الرجل العربي "المتوحش". هل تغيّرتُ أم تغيّر الوقت؟ هل البُعد الجغرافي يسمح بمراجعة أكثر تسامحاً؟ ولماذا يعود بنا الزمن إلى ستينات القرن الماضي كأنه لا خبر جاء ولا وحي نزل؟

مؤلم كل شيء. الصمت والكلام. القبول والرفض. هذه المعضلة غير القابلة للحل، عن أولوية التحرير أم الإصلاح، تشبه قصة البيضة والدجاجة. لكن، في وقت الحرب، لن نكون كنساء عربيات طابورًا خامسًا أبداً! نحن مع الرجل وأمامه في مقارعة الظلم، نحن نعلن حصتنا من القضية والمعاناة، وقد عشناها طويلاً وسنعيشها. فرانز فانون تحدّث مطولًا عن خلع الجزائر للحايك (الحجاب التقليدي للمرأة الجزائرية). شرح كيف وظّفت فرنسا الاستعمارية نسويات فرنسيات يُقنعن النساء بخلع الزي الإسلامي التقليدي، وقبلت النسويات هذا الدور في الآلة الاستعمارية عن تواطؤ أو سذاجة.

كان الاحتلال ينشر ملصقات من قبيل: "ألَستِ جميلة؟ لماذا تخفين جمالكِ خلف الحايك" وكان المقصود، بحسب فانون، الوصول إلى اللحم الجزائري: اللحم الذكَري لاستعباده، واللحم الأنثوي لاغتصابه. المحتلّ اعتبر أن كل شيء مباح له وكان هذا الحجاب حاجزًا في وجه اختراقه المجتمع الجزائري، وكانت تقام أعراس خلع الحجاب في وسط حي القصبة الشهير! لكن المفاجأة كانت أن النساء اللواتي خلعن الحجاب وعشن على الطريقة الأوروبية خاطرن بأرواحهن فداءً للثورة: جميلة بوحيرد، وزهرة ظريف وجميلة بوعزة وغيرهن كثيرات. أما المرأة الفلسطينية، حمّالة الأسية، فقد واجهت بجسدها وقلبها وعقلها وروحها آلة القمع، منذ النكبة وحتى اليوم، وقاتلت كتفًا بكتف مع الرجل، والأمثلة لا تُحصى، من فدوى طوقان إلى عهد التميمي، مرورًا بليلى خالد ودلال المغربي.

أعود إلى استغراقي في محادثاتي الداخلية التي لا تنتهي، تلك التي لا تهمّ أحدًا ربما، لكني أعتبرها ضرورية كي أستطيع مجابهة اليوم ومسؤولياته ومضايقاته. صديقتي الوحيدة غادرت الى ولاية لا يعرف سكانها إن كان لبنان يقع قرب النروج أو المكسيك، ويخلطون بين التاكو وخبز البيتا. حتمًا ستضطر لشرح أشياء كثيرة، وستتعب وتصمت المسكينة، كما افعل أنا حين يداهمني الحنين إلى عالمٍ عربي خالٍ من وحوش الدم، من مستعمرين ومتآمرين. عالم لم يطردنا. عالم هو مكاننا الوحيد في هذا العالم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب