السبت 2023/09/30

آخر تحديث: 19:07 (بيروت)

أزرار جدي الملوّنة..هِداية للتائهين

السبت 2023/09/30
أزرار جدي الملوّنة..هِداية للتائهين
اللوحة للفنان السوري مهند عرابي
increase حجم الخط decrease
بعد أن تجهزني، تمسك بيدي وننطلق مسرعتَين، وحين نصل جامع النور، قد يحالفنا الحظ بباص للنقل الداخلي يتولّى تهدئة أنفاسي المتسارعة مع خطوات أمي الواسعة، لكن الضريبة ستكون حرماني من دهشة تدفق الدوبامين في عروقي، فالباص يعني وصولنا لعيادة أمي  من دون محطتي اليومية المفضلة...دكان جدي.

مع اقتراب إحداثيات الدكان، أترك يدها وأسبقها راكضة لواجهة زجاجية ضمّت كل أسباب المتعة على رفوفها، أهيم هناك في صندوق العجائب، كل المنمنمات اللامعة والملونة تنادي فضولي…"كليبسات"، "بوندات"، خواتم صغيرة وكبيرة، أساور مزخرفة، أقراط فاتنة. أقف مطوّلاً هناك، ويبدو جدي خلف الزجاج كمَن يحرّك خيوط دمى العرائس في عرضٍ مسرحيٍّ مبهر. يُنزل من الرفوف قوارير زجاجية ملأى باللؤلؤ والخرز والسيلان، بأحجام وألوان متباينة، على يمينه ميزان صغير، كنت أظن حقاً بأن "السيدة ملعقة" أعارته إيّاه. يَزِن جدي غرامات من الدهشة ويبيعها.

كنت في أعوامي الغضّة المستفيقة على الوعي، وحَمَلت ذاكرتي جدي في سلّتها مع كل تفاصيله. كان صاحب"النوڤوتيه" الوحيد في البلدة، ويكفي القول بأني حفيدة "أبي فصيح" حتى يعرفني القاصي والداني. دكانه الصغيرة في كنف الجامع، استدعت إنارة الأضواء على الدوام، ما يزيد أشياءها التماعاً، يتكسّر الضوء على سطوحها، فتغدو كنوزاً لعلاء الدين، يجمعها في مغارة جدي، يأتمنه عليها ويمضي.

أقف على رؤوس أصابعي، أرفع يدي لأسلّم عليه من وراء"الجام" الزجاجي، يلمس رؤوس أصابعي، وأحياناً يرفعني ليجلسني على الطاولة، يقبّل يدي، ويمنحني ابتسامة تؤكد في كل مرّة، بأن محيطاً أزرقاً في عينيه، نذر أمواجه عوناً لسمكاتٍ ضللن الدرب. ما زال الأزرق الفاتح يبحر في عيني جدي، ومازلتُ أبحث عن أزرارٍ بلونهما.

وبالرغم من صغر المكان، إلا أن ما يحويه من الكثير، يجعله عالماً مستقلاً كاملاً. يحتار النظر أين يحطّ. تلفتني ربطات الشعر ألصقت نفسها بنحلاتٍ وغزلان خشبية، وكأني ليلى تناديني الطريق الطويلة لأعاند أوامر أمي وأمضي في مغامرة تستحقّ المخالفة. صناديق رُتّبت فيها الخواتم الذهبية بفصوص ملونة، أجزم بأنها ذهب خالص، وتنكر شهقاتي تأكيدات أمي بأنها ستصدأ بعد حين. فراشات تحمل قوس قزح لتستقر على ياقات القمصان. أمشاط شعر عاجية، ومرايا صغبرة كتلك التي تقتنيها باربي. تفاصيل تحلف بالجمال كلّه، بأنها آتية من الخيال، لتعبر بمن يمرّ بها إلى بوابة سمسم.

كلما وضعت سبابتي على شيء، حوّلتها أمي إلى شيءٍ آخر يلزمني وأستخدمه، وكأنها تحجّم كمية المقتنيات، فلا تُفلس دكان جدي الذي يردّ: "اتركيها تأخذ ما تشاء".

كانت الأقراط تأخذ من وقتي الكثير، كثيرة الأشكال، نجوم وأقمار وورود، لا أستطيع مقاومتها، تقدّر لي أمي ذلك التطرف لاقتنائها:"طيّب، سأزين بها كنزتك الصوفية، وإلا فستذيب شحمة أذنك الحساسة لغير الذهب، هل نسيتي؟"

"الكانڤا"، مع الخيطان وإبرتها الكبيرة التي لا تؤذي، يقول جدي إنها أفضل ما يمنحني إيّاه، فالتطريز ديدن الأميرات، وعليّ أن أشبّ عليه. يَصُرُّ لي مقتنياتي بورقة كبيرة، يسلخها من أحد الكتب، وقد يطيل في ذلك لحين يقرأها، فهو لا يصفح عن قصاصة قبل أن يتمعّن فيها وإن كانت حواراً تربوياً بين باسم ورباب (بطلا كتب القراءة للمرحلة الابتدائية). أضحك وأقول له: باسم ورباب للصغار. يجيبني وكأنه يعتذر من استخدام الكتب لصَرّ المشتريات: "هل تعلمين كم تعب الكاتب والطابع والناشر بها؟ أقل تقدير لهم أن تُقرأ".

كان جدي محبّاً للعلم، مقدِّراً لمن ينهل منه. يطلب دفتري في كل زيارة، وحده يطيل ويتمعّن في. كانت الكلمات المصطفّة كقطارٍ مائل خلف مقطورة صدّرتها المعلمة بالأحمر، تفقد من حروفها ونقاطها في آخر المطاف، فيطلب تصحيح مسارها. ورغم أن المعلمة قد أثنت من دون أن تقوّم بعضها، إلا أنه ينشد الصحيح على الدوام، يكافئني لكل عَشرة إملائية، بقطعة نقدية مجزية، وحين أقول له التسعة والنصف كالعشرة، هكذا قالت المعلمة، ينفي برأسه ويقول: "لا شيء كالعشرة".

في دارة جدي شجرة ضخمة، تحمل ثمرة الخرما، مثل لمبات معلقة بشريط زينة فيصيّرها شجرة العيد. يجمع لي بضع حبّاتها بكيس ورقي مع تفاحة أو اثنتين، يكرر وصيته في كل مرة: "دعي أمك ترفعه على الرفّ، التفاح سيساعد الثمرات لتنضج أسرع، وتصبح كالعسل بل وأشهى". أطلب من أمي تفقّد ثمار العسل كل يوم، حتى نضجها الكامل، أمسك بملعقة كما أوصاني، وأتناول منها عسلاً مختلطاً برائحة جدي.

ورود جورية يجلبها من مدخل دارته، وكما كان يقطفها تلميذاً لمعلمه كل يوم، يضمّها في باقات صغيرة ملفوفة بورقٍ حتى لا تؤذي يدي الصغيرة بشوكها الكثيف، أهديها لمعلمتي، فيصير الصفّ ربيعاً.

للورد والشعر حكاياه مع جدي، حفنة من زهر الليمون، وبيت شعر، دفعت الرئيس الأتاسي دعوته ليقيم في مكتبه، يرتّب أوراقه بيدين تفوح منهما رائحة الليمون، بعدما تمّ انتقائه من بين ستة فقط ممن يجيدون الكتابة والقراءة ليدخلوا مدرسة الرتباء.

تجاوز جدي الخامسة والتسعين، ومازال نحلةً تستفيق قبل الفجر، لتلعق من رحيق الزهر، يمشي على عكّازه، ولا يهدأ، يضع سمّاعتيه ليصغي حين يريد، فلطالما كان حسّاساً للضوضاء. بقي نزق جدي وفيّاً له، تزعجه الأشياء في غير أماكنها، لكنه يبتسم كثيراً، ويصمت كثيراً. نُخفي عنه الكثير من الأمور التي قد تؤرّق عقله المفرط يف التفكير فلا ينام. يسألني كم أصبح سعر زر المعطف؟ أجيبه برقمٍ قد يكون دفعه سابقاً أجرة بيت لشهرٍ كامل!

يطالب بإصلاح عكّازه، وحين يعلم بالكلفة، يعلن بأنه لا ينتمي لهذا الزمن، يردّد: "إذا استفاق الميت وعلم بسعر كيلو البصل، سيقول أعيدوني لحفرتي واردموا بالتراب".

يشرب قهوته وحيداً مع أسياخ الزنبق التي زرعتها جدتي، يسقيها، ويشهق كما الطفل الصغير مفتقداً رفيقة الدرب. يطوي في جيب قميصه من الجهة اليسرى أشعاراً كان قد خطّها من أجلها فترة الخطوبة، يحتفظ جدي بكل شيء في مكانه الصحيح، فلا مجال للفوضى.

في آخر مرة زرته، كان في غرفته، لا مكان لأجلس فيه، فَرَد جلاءات بناته في كل مكان: "تعالي وانظري لجلاء أمك في الصف الثالث، لديها ضعيف في الرسم، والباقي ممتاز".

يروي لي يوم الجلاء المميز (توزيع الشهادات نهاية العام الدراسي)، كيف كانت جدتي تلبس بناتها اللواتي اختار لهنّ أسماء مميزة مرتبطة بأحداث زامنت ولادتهن. كان العيدُ الثالث في المنزل. تفرد البنات شعورهن في يوم الجلاء، يُسمح بالتميز في المناسبات، هدايا، وأرز بحليب، وجارات ينتظرن بناته عند الدرج يتأملن فرحة التفوق.

تحمل الذاكرة جدي في سلة من قشّ، ومنديله الكبير اختبأت بين مربعاته برتقالات وحبات عنب. أتناول علبة الأزرار، أفتحها من حينٍ لآخر، تعجّ بأزرارِ الألعاب… قطار ملون، سلحفاة خضراء وصفراء، هاتف أحمر، كلب صغير، أزرار بثقوب مخفية، أخرى بثمانية، خشبية مضلعة… أجمعها كلّها من كفيّ جدي كلّما صافحته… أفردها حين يستبدّ بي الحنين، أدوّر أزراراً بلون عينيه… علّ الموج يهديني لوجهتي، فلا أضلّ بعدها أبداً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها