الإثنين 2023/11/27

آخر تحديث: 16:33 (بيروت)

كان ينقصها التنور... وبه امتلأت الذاكرة

الإثنين 2023/11/27
كان ينقصها التنور... وبه امتلأت الذاكرة
الفنان السوري نهاد الترك
increase حجم الخط decrease
يكبر العصفور، وشيء من الحنين يسحبه إلى عشّه الأول... مكان الخطوة الأولى، أسماء الرفاق، وذاكرة الحواس.

أدركت هذه المعاني حقاً حين لمحتُ غيوماً سخيّة بالمطر المالح على وجنتَي عمتي الكبرى... تُصيّر المشهد ضباباً يُفصح عن حبلٍ ينتهي بعقدة متينة تقبض على حجر عملاق يتوسّط القنطرة، في حين تحكم على طرفه الآخر قبضات كثيرة وكأنها سرب دوري حطّ على سلك الكهرباء... يتأرجح كلّما اكتمل العدّ إلى ثلاثة.

ما إن سقط الحجر، حتى انفرط عقد القنطرة... نعم حان وقت هدم البيت الطيني القديم، ليصعد آخر من الإسمنت.

كان بيت الجدّ الأول واسعاً وعالياً، غُرفه الطينية الكبيرة، الرطبة صيفاً الحنونة شتاءً، تُكمل فناء يتوسّطها، حيث تلقي الدالية صباحاً للخير كلّما امتلأت فناجين القهوة.

كان بيت جدّ والدي مطلّاً على جنينة التوت، وهي الجنينة الأكبر في القرية التي صارت مدينة في ما بعد، فاختفى جزء من الأشجار بفعل الشارع الإسفلتي الذي اخترقها.

حرص أبي على اصطحابنا أيام الجمعة إلى الدارة الكبيرة، حتى لا يغلبها غبار الهجر. تجتمع الأسرة كاملة هناك، نحتمي من قيظ الظهيرة بعد الوقت الذي نقضيه في جنينة التوت.

عند البوابة الخشبية العملاقة، أقف أنا الصغيرة محاولة فكّ رموز نُقشت على أحجارٍ اعتلتها. لم أعد أذكر من ذاك المكان سوى رائحة مشبّعة بكل ما هو خشبي. أغصان غضّة تناول الثمار للشرفات العالية، سقف من الحصير، وصندوق من خشب الجوز مزخرف بالخزف والفضة. والمساند الملوّنة يدوية الصنع تخطف انتباهي في كلّ زيارة.

يقف أبي كدليل سياحي وسط قلعة قديمة: "هنا غرفة عمي الصغير يدرس فيها طوال الليل، وهذه غرفة عمي الأوسط، وهذه كانت لنا، وهناك في أسفل الدرج غرفة ستي".

صرنا في الآونة الأخيرة نصطحب أزاميل صغيرة، ونبدأ بالحفر التخريبي على الجدران الطينية المطلية بالكلس الأبيض، نحن أبناء الجيل الثالث من العمومة والعمّات، هكذا تتجلى صلة قرابتنا بالمكان. يأسف أبي محاولاً الردع، فأردّ مبررة عبثاً: "طالما أنه سيُهدم عاجلاً أم آجلاً!". أكتب هذا... وأرى نظرته حاضرة تعاتبنا بحسرة، وكأن الإزميل يخرّب في شغاف قلبه ما يفعله في الكلس الأبيض.

أدركتُ هذا كله حين كنتُ أبتعد عن بيتنا لأسابيع في رحلة صيفيّة. وحالما تقترب الحافلة من الحيّ الجديد، يخفق قلبي وكأنه استفاق للتوّ من نومه السريري، فلا بيروت ولا صلنفة ولا دمشق تتساوى بشوارع حيّنا! تهزمها بمسحوق الطمأنينة الذي تنثره فوق الرؤوس، فيسلب لبّ أصحابها عنوة، ليؤكد اليقين كلّما مرّ ردح من العمر، بأنه ليس مجرد بيت، هو المكان الذي اختزل الحنين مكثّفاً في زواياه، وسدّ به كل فراغ يصادفه.

امتلك الحيّ الجديد خاصيّة الاستيقاظ المبكّر. فلكل بيت، نحلته، تسعى قبيل الفجر بقليل. تكنس عتبته وتكافئها برشّ الماء، تشطف الفناء المبالغ في الاتّساع، وتداعب مياه الخرطوم أزرار الجوري معلنةً بدء النهار.

كانت الدارة الكبيرة تفتح ذراعيها لاحتضان كل الفصول، تنظّمها بأناة، تُجلس الشتاء على المصطبة الشرقية لتفرض الشمس المتنقلة تعديل مكان الجلوس. أما الصيف فيسكب لنا، نحن الصغار، الحليب على المصطبة الغربية، ويناول كلاً منا كعكة.

زنّار السرو حول البيت يكتنف حبات الفريز التي، حين تحمّر، نتقاسمها بالتساوي.
كان اللون الأخضر ما يميّز بيتنا، شجرة الفلفل العملاقة ترحّب بالزائر، ثم تمنحه الياسمينة قُبلة من عطر. الليمونة بجانب شجرة الكبّاد. شجرتا المشمش التوأم. الملّيسة والتوتة الشامية والتينة البعلبكية بثمارها السوداء الضخمة. شجيرات الجوري. أرانب أبي، وكنارات عمي، ودجاجات جدتي، والقنفذ الزائر المتردّد... كلها، ونحن معها، كان لنا متّسع في بيتنا!

في مدخل البيت، إلى اليمين قليلاً، البيت البلاستيكي الذي يجود في نهارات رمضان الباردة بسلّة الفتوش. أما عند آخر البيت، حيث الركن الخالي، فيستقرّ التنور الطيني معلناً امتلاء المكان بالكامل. لم يعد للنقص مَنفَذ يتسلل منه، فرائحة الخبز صباحاً تعلن الاكتفاء.

منذ عمَّرَت خبيرة التنانير لنا واحداً، وأنا أسكب للعمة الماء في معجنها. أسرح في حركات يديها الخفيفة وهي تقرّص العجين، وحبات البركة تعلن هويتها ضمن التباين بين الأبيض والأسود.

أعتدل على الكرسي الصغير لأصنع كعكتي المجدولة. بجانبي العمّة مريم، تلوّح برغيفها الكبير، وعيني على فقاعات الرغيف الآخر المنتفخة، تكتسب اللون بفعل الجمر.

أما جدتي، فتلصق أرغفتها الصغيرة السميكة بجدران التنور مباشرة، معتذرة أنها لا تلوّح بها: "بس كمان طيّب يا ستي.. بيقولوا له رغيف المي المصبّع". تناولني واحداً بعد أن تدهنه بزيت الزيتون. ساخن، أركنه جانباً ليبرد، وأراقب فجوات نقشتها أصابع جدتي فتركت أثراً في روحي، كما فعلت في رغيف الماء.

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها