الجمعة 2023/10/06

آخر تحديث: 19:02 (بيروت)

جَهلُهم.. تلك الشجرة الجهنمية

الجمعة 2023/10/06
جَهلُهم.. تلك الشجرة الجهنمية
"مسيرة الحريات" في رياض الصلح (المدن)
increase حجم الخط decrease
30 أيلول 2023، ساحة رياض الصلح:
جلستُ على قارعة الطريق، عصرَ سبتٍ سُمي "بالأسود"، كنايةً عن السّوداويّة التّي أحاطت المشهد العام. كنت لأهِبَ أي شيء لقاء وجودي في شقتي، متدثرةً بغطاء خفيف، ومُشاهدةً أي مسلسلٍ في نتفليكس. لكني كنت هناك، مُتيبسةً في موقعي، فيما طفقت بالتّفكير، طارحةً على نفسي سؤالًا عن الخطأ الذي حدث، وما الذي قد يجعل أي إنسان غاضباً إلى هذا الحدّ؟ ما الذي يُعطي أي فكرة كل هذه القدسيّة والذاتيّة؟ لكني سرعان ما استدركت، وبعد أول صرخةٍ وأول لكمةٍ وأول شتيمة، أن التّفكير تمرينٌ عبثيّ، ما دام يصعب توقع أي إجابة مُطلقة وشافيّة في هذا البقعة المنكوبة.

جلستُ هناك أُزيل عن كُمّ قميصي، أشواكاً علقت فيه بعدما قام أحد المتشددين أو العناصر الأمنيّة (لم أعد أعرف)، بدفعي نحو شجرة يابسة. كل شوكة أقذفها بعيداً، أُردّد معها كلمتين لا أكثر "grave danger". لست أدري ما خطر في ذهني لحظتها، وما المُحفز الذي جعلني استشرف الخطر الداهم بالإنجليزيّة دون سواها. أذكر أني للحظات كنت أقبع الشوكة كورقة "تاروت"، أو كمخطوطٍ يحمل نبوءةً توراتيّة رهيبة، شبيهة بالتّمثيلات الروائيّة للمدينة الفاسدة، الديستوبيا.

شعرت باختلاج أشياء كثيرة في داخلي، لحظتها: الغضب، الضعة، الهزيمة، القنوط، وشيءٌ ما ينمو كشجرةٍ جهنمية في جذعي، الحقد. أحقد على أولئك الغاضبين من المعارضين السّياسيين، من الصحافيين، من المنتفضين، من المثليين/ات، من العابرين/ات، من اللاجئين، من الفقراء، من الكوميديين، مني، من أصدقائي وزملائي... الغاضبين من الفكرة، من الإنسان كيفما كان... أحقد على مروّجي خطاب الكراهيّة العمياء، المُتطرف حدّ الجنون، العصبيّ قلباً وقالباً، على الوصوليين، المدعين، المُخاتلين.

جلستُ هناك، أنظر باتجاه ثلة من الشباب، أطلقوا لحاهم الكثّة إلى الهواء، والشتائم تنبعث من حناجرهم بسلاسةٍ شوارعيّة فريدة. لهنيهةٍ، بدا الجوّ كئيباً رغم الصخب، بدا المشهد بدائياً حدّ الفجيعة، وكأن محرقةً للساحرات والمشعوذين والمهرطقين تُستعاد من الفترة بين القرن الخامس العشر وأواخر القرن الثامن عشر، لقد جاء من نصبوا أنفسهم قضاة تفتيش، ليحرقوا الواقفين عن بِكرة أبيهم. لركل ونبذ كل من ليس على مقاسهم. لشتم المعارضين ومجتمع ميم–عين، واللاجئين المُستساغ إقحامهم في كل شاردةٍ وواردة. لشتم كل من ليس ابن الطائفة والمذهب والقالب والقوميّة "الفلانية".

فيما حدقت في شابٍ عشرينيّ، هندامه شعبيٌّ ومشترك القيافة مع باقي الشبان، بدت واضحة استساغته الشتيمة لإحدى المُشاركات في الوقفة الرمزيّة، وكأنه يتلمظها ويستلها من فاهه ليطعن بها المُشارِكة في وجهها وفي رأسها وفي شعرها القرمزيّ، تشفياً. نظر الشاب نحوي للحظات، وكأنه أحس بأن هناك ما يعتمل في رأسي، حدّق فيّ بدوره بعينين مغلفتين بشيءٍ من الامتعاض، تفحصني، وأشاح بوجهه. فابتسمت، مُتحسسةً بطاقتي الصحافيّة وكأنها كل ما أملك. وكأنها صك الغفران، الدليل الحسيّ الوحيد، على أني لست "مثليةً" ليشتمني ويضربني.

لم يخطر في بالي أن الشاب ساوره الشكّ في تورطي في "مسيرة الشذوذ"، متلقفًا الحلقة الذهبيّة في أنفي، كغرابٍ تلفته الحليّ اللماعة. بل ظننت أنه استطاع التّسلل إلى عقلي، ورؤية ما يختمر فيه، وازدرائي لغضبه المُفتعل المُبالغ فيه وعصبيته وبلادته الفكريّة وهمجيته المفرطة.

كنت أظن، لسذاجتي، أني الأقوى والأذكى والأكثر تنوراً. وأنهم "هم" الأضعف، الأكثر عدداً، لكن الأقل معرفة ووعياً، وهذا ما يجعلني فوق و"هم" تحت، وأن الجاهل بحقوقه والمتعصب لجهله، المنطويّ على عقيدته الجافة، أشبه بالقرمة الجوفاء المُجرّدة من الوعي. لكني استدركت، مساء سبتٍ، من المفترض أن يكون نهار راحة لكني تورطت فيه بتغطيةٍ صحافيّة، وأثناء تقاطع نظراتي مع نظرات ذلك الشاب، الحقيقة المُرّة والظاهرة للعيان: أن حقدي، هو هذه القرمة، أما جهلهم فهو تلك الشجرة الجهنميّة الآخذة في النمو، اعتباطياً.

                                                                         

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها