الأحد 2023/11/05

آخر تحديث: 00:02 (بيروت)

الموت وحده يقتل الخوف

الأحد 2023/11/05
الموت وحده يقتل الخوف
"الروح الجريحة.. الشاهد الصامت" للفنان العراقي ضياء العزاوي
increase حجم الخط decrease
أكثر من ثلاثين يوماً من القتل المجاني. توقفنا عن عدّ الأيام، لأننا مشغولون بإحصاء الضحايا. عدّاد لا يهدأ، عدد القتلى يتبارى وعدد الجرحى. في الحروب نتحول إلى أرقام، أسماء الضحايا ووجوهها تبقى محفورة أمام العائلات والأصدقاء، لكنها في الغالب أرقام لأشخاص يشاركونها لنقل هول المأساة.

عن أي مأساة نتكلم في غزة هاشم، ومَن نرثي ومَن نبكي ومَن نناشد لوقف الحرب؟ "إذا ما صار حرب"، توقيت جديد نحيا عليه لنحدد ما سنقوم به في اليوم التالي. توقيت يسكن حياتنا، وحياة أطفالنا، منذ السابع من تشرين الأول الماضي، اشتد وقعه قبل الساعة الثالثة من يوم الجمعة، وخفت وقعه بعد يوم الجمعة الساعة الثالثة، بعد خطاب الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله. وكأنه نَفَس كان الجميع يتوق إليه. نَفَس ثمين ذكّرنا بأهمية التقاط الأنفاس التي عرفنا قيمتها في عصر الكورونا. هذا النَفَس الذي قد يكون مؤقتًا، بسبب غدر عدو لا يعرف للإنسانية معنى، أو بسبب تفلت من قواعد الاشتباك المتعارف عليها. نَفَس مؤقت ومرتهن.

فالتخطيط لأيام مقبلة، أو لأسابيع، أو لمستقبل، ترفٌ لا نملكه، نحن الشعوب التي تلاحقها لعنة الجغرافيا، كما لعنة التاريخ الذي رسم منطقة على فوّهة بركان يتفجّر على شكل مجازر وحروب من حين إلى آخر.

يتسلل العجز أمام أخبار غزة. أصابع تطبق على مجرى الهواء لتقطع هذا النَفَس. العجز أمام آلة حرب لا تهدأ، ومناشدات لا تلقى صدى. بأي لغة نناشد، وعلى أي مقياس نرفع الصوت؟ وأي لغة أبلغ من صور الأشلاء التي تعم الشاشات ولا تجد طريقها إلى الضمائر؟ وأي صوت أعلى من صوت القصف والحمم المتساقطة على مستشفيات غزة ومبانيها وكنائسها؟

متى ندرّس أولادنا درس التربية عن شرعة حقوق الإنسان والطفل؟ قبل الحرب أم بعدها؟ أي مثال نعطيهم عن دور مجلس الأمن الدولي ومنظمة الأمم المتحدة؟ كيف نبرر لهم أهمية الفيتو الذي يُرفع بوجه وقف إطلاق الصواريخ على رؤوس الأطفال؟ كيف نعلّمهم المناداة بالسلام من أرض لم تعد تعرف معنى السلام؟

كيف نشرح لهم ازدواجية المعايير الإنسانية في الغرب الذي نسعى جاهدين للالتحاق بركب مواطنيه، بحثاً عن جواز سفر يحوّلنا إلى بشر من الدرجة الأولى في أيام الحروب، ليتم تحذيرنا من السفر إلى المناطق الساخنة، ويتم إجلاؤنا في حالات الكوارث الطبيعة أو غير الطبيعة، ونجد من يطالب بنا في حال أُسِرنا؟ كيف نفسر لهم أن لبعض الجنسيات مرتبة أعلى، وأن كل أفرادها لا يتحولون إلى أرقام بسهولة، وأن رؤساء بلادهم يقطعون بحاراً ويتضامنون مع القاتل الأشرس، فقط لأن أحدهم مسّه سوء؟

"إذا بقي الوضع هيك، وما تأزمت".. عبارة نبدأ بها وعودنا اليومية. نوصل أطفالنا إلى مدارسهم، ولا نعلم إذا كنا سنعود إلى المنزل نفسه بعد الظهر. أصدقاء يعرضون منازلهم للمشاركة في حال تأزم الوضع، بعيداً من المناطق التي سيطاولها القصف أولاً، في الجنوب اللبناني والضاحية الجنوبية لبيروت. وآخرون يسألون إذا ما وضعنا خطة بديلة في حال بدأت الحرب. وكل إجابة تبدأ بـ"إذا لحقنا".. سنترك المنزل إلى هذه النقطة أو تلك، وإلى المطار لمن استطاع إليه سبيلاً. خطط تبدو سخيفة، وخوف مطعّم بالذنب أمام آلة القتل التي تفتك بأهالي غزة، لكن ما الحل؟ هل الخوف من الحرب خيانة لأطفال غزة؟ هل الفرح بأنه لم يتم إعلان دخول الحرب رسمياً، والأمل في عدم امتداد أتون الحرب إلينا، تخلٍّ عنهم؟

أين نهرب بأطفالنا؟ أين نخبئهم؟ هل يستطيع قلبنا حمايتهم؟ لو نستطيع أيضاً أن نخبئ أطفال غزة. لو يتسع القلب لكل هذا الأسى. لو نتمكن من البكاء الذي بات رفاهية يمكنها أن تخفف ضغط الأفكار السوداء التي تحتل الرأس. لو لدينا ما يكفي من أعصاب لتحمّل المزيد من المآسي. ما هي قدرة التحمل التي علينا التمتع بنا لنستطيع استيعاب ما خلّفته متفجرات تكاد تعادل قنبلة ذرية؟ هل نسرف في المشاعر والتضامن؟ أم نبقي بعضها لما قد يحل بنا في حال وصلت الحرب على غفلة؟ هل يكفي انتهاء الخطاب ليخفت خوفنا؟ أم أنه فقط وقف إطلاق النار في غزة ما قد يمنحنا هذا الشعور بأن الخطر قد زال إلى حين؟ الوقت لا يقتل الخوف. لا شيء يوقف الخوف سوى الموت. الموت الذي يلاحق أطفال ونساء غزة، ويتربص بنا من بعيد، ملوّحاً بأنه سيكون جزءاً من حياتنا إذا ما وصلتنا الحرب.

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها