الجمعة 2023/11/24

آخر تحديث: 20:08 (بيروت)

"تعزيل" الهدنة...خريف آخر

الجمعة 2023/11/24
"تعزيل" الهدنة...خريف آخر
الفنانة الفلسطينية روان عناني
increase حجم الخط decrease
تأخّر الخريف هذا العام. كأنّ الصيف يرفض أن ينحسر.
بدأ الأطفال عامهم الدارسي باستظهار تقليدي حول الخريف والطقس المعتدل، ونشطت حملات التسويق للقرطاسية والملابس الشتوية. متسمّرات أمام الشاشات، لم تكترث ربّات البيوت لموجة الحرّ اللاحقة لأوانها. تلفحهنّ رياح ساخنة وتضاعف تعرّقهنّ من هول ما يصلهنّ من غزّة، فيقلن لعلّ المناخ تعاطف مع أهل غزّة وجنّبهم كوارث المطر والبرد فوق كوارث الإبادة.

تمرّ أسابيع عصيبة، جحيم مفتوح مباشر على الهواء. جيش الاحتلال الإسرائيلي لا يكترث لأي مظاهرة أو نداء أو تنديد، يزداد نهماً للأشلاء والدماء والنحيب والتفجّع. استغاثات منتظري الموت وآلام الجرحى المحرومين من مُسكّن وشربة ماء، تؤرّق ليل المشاهِدات.

ثمّ تهطل الأمطار ويهجم الصقيع دفعة واحدة شرسة. عدم وجود سجاد فوق بلاط المنازل، وإبقاء الملابس الشتوية في صناديق التخزين، هما سبب وصول البرد إلى العظام؟
لماذا أهملت أمّهات وربّات أُسَر أموراً بديهيّة، وعرّضن أهل بيوتهنّ وأطفالهنّ لصدمة البرد هذه؟ لأنّ إبادة جماعية، وإن حدثت في بلد مجاور، تسلب العقل هناءته وشعوره بالزمن والمواقيت وحسابات المواسم.

أمّا وقد تأكّدت أنباء الهدنة، تقف ربات البيوت اليائسات وسط بيوتهنّ، ويفكّرن في هذا الصقيع الذي قرص أنوف أولادهنّ. إنه الخريف المبشّر بالشتاء، وثمة أمور كثيرة عليهن القيام بها، غير متابعة أخبار الإبادة والنحيب أمام صور جثث أطفال ماتوا جوعى وعطشى، وحوامل شقّت بطونهنّ من دون تخدير، وجروح امتلأت بالدود، وخدّج خُنِقوا قبل أن ينادى عليهم ويُهدهدوا، والتفجّع لمرأى تلك الأساور البلاستيكية التي تحيط بمعاصم صغيرة ومتناهية الصغر وسط ركام المستشفيات...

تأتي هذه الهدنة لتقوم ربات البيوت بما أجّلنه خلال أسابيع الإبادة الحية التي عشنها، طفلاً طفلاً، وحرفاً حرفاً، في معجم حقوق الإنسان والحريات الذي يتباهى المواطن الأبيض بإنجازه. في الهدنة، سيبكي أهل غزّة ويتبادلون التعازي وحمد الله على النجاة المؤقّتة والمشروطة. السياسيون والمحاربون، سيقومون بذلك في الهدنة أيضاً. أما ما ستقوم به النسوة اللواتي أعيش بينهنّ، فهو الشروع في عمليات "التعزيل" السنوية التي أجّلنها. وهي عملية تقليدية تقوم بها النساء كل خريف وتقتضي تنظيفاً عميقاً للمنزل وفرش السجاد وفرد اللحف وتوضيب الملابس الصيفية واستبدالها بالشتوية. عملية شاقة تترافق مع كآبة وضيق وحساسية موسمية. تجنّبت النسوة تلك المهام المنزلية. ربما اعتقدن أنّ الغد لن يأتي والشتاء لن يحلّ، وأنّ من الأفضل للزمن أن يتوقّف. وقد ساعد المناخ، خلال الأسابيع الماضية على هذا، مع تأخر البرد والمطر، وابتعاد الخريف عن موعده الرسمي.

الآن، مع الهدنة، يمكننا أن نطوي الملابس الصيفية ونخزّنها بكل ما مرّ بها وبنا خلال الأسابيع الأخيرة. فيسكوز، ساتان، شيفون، كتان... نحسدها. أقمشة خفيفة، أخفّ من أن تحمل ذكريات الإبادة. نُخرج من السقيفات والخزائن العالية الملابس الشتوية الثقيلة. معاطف محشوة بالقطن، سترات من صوفٍ نما سنوات فوق جلود الخراف، وأخرى صناعية لا صلة لها بالطبيعة. علينا أن نحسد أنفسنا عليها، بينما يهرع الناجون من الغارات إلى أنقاض بيوتهم وتوديع الخراب، والبحث عن رفات عزيز ما، أو معطف، أو ألعاب إبن له أو قلم تلوين. ولنفرض أن طفلاً عثر على ممحاة، ماذا لأجوَد ممحاة أن تمحو بعد اليوم؟ الخطوط الخارجة على حدود دائرة؟ الكلمات النافرة نحو الهامش؟ الحروف الساقطة عن السطر؟ ربما، لكن ما الجدوى، والقهر الذي لوّن أرواحنا عصيٌّ على المحو؟

في الهدنة سنُخرج اللحف والأغطية الباعثة للحرارة، ننظّفها ونشمّسها لتحمي أجسادنا أثناء نومنا المتقطع المصحوب بالكوابيس. وهم، سيحفرون قبوراً جماعية، وستكون محظوظة الجثة التي تملك كفناً.

هناك، سيبحثون عن ضمادات نجت، بينما هنا، تعثر امرأة في جيب سترة الصوف على منديل نسيته طوال شهور الحرّ. تسأل نفسها إن كان عليها الاحتفاظ بمعطف محشو بفراء الدببة، وله شعر ذئب صناعي عند ياقته؟ لقد هزلت إلى درجة أنها لن تظهر فيه إذا ارتدته، ستبتلعها دببته وذئابه. هل كبر أثناء سباته الصيفي؟ لا، بل هي التي هزلت، ضمرت عظامها من الخجل والعجز. أصابتنا الإبادة في عظامنا، كالصقيع الشرس نفسه.

يأتي هذا الخريف بين جحيمين، وتأتي الهدنة بين إبادتين. لا مجال للفرح بالأمطار الأولى ورائحة التراب العطش وموسم قطاف الزيتون. لا مجال للابتسام لملابس اشتقنا لها، لملمس مخمل السجاد النظيف. أتذكّر ذاك الفرح، كان امتيازاً طفولياً. كل خريف، كانت أمي تقف على السُلّم لتنزل الحقائب التي خزّنت فيها ملابس الشتاء ودسّت بينها كرات النفتالين. ولأننا لا نطيق صبراً، ندّعي أننا بردانون، ونتوسل أن ترمي لنا بعض الملابس وهي تمسح الحقائب قبل إنزالها. ترضخ لمشاكساتنا وترمي لنا بعضها، كعصفورة تسكت مناقير فراخها المفتوحة. تنهمر فوقنا السترات التي اشتقنا إليها خلال الصيف. تلبيةً للرياح الخريفية في الخارج، نرتدي السترات ونسارع للركض حول المنزل ومدّ ألسنتنا الصغيرة لنقاط المطر. أما داخل المنزل، فعلى أمي غسل الملابس التي كانت مخبأة في صحبة النفتالين ذي الرائحة النفّاذة، ومكابدة أعراض الحساسية التي تثيرها، وفرش السجاد وترتيب اللحف والأغطية الثقيلة على الأسِرّة. إنهاك ومعاناة تتحمّلها لأنّها تعرف أنّ الشتاء سيأتي وسيكون أطفالها مستعدين له.

الأمر أشبه بالنعيم، مقارنة مع خريف مَن فقد كل شيء، بيته وأُسرته وأحبّته. عليه الآن أن ينتظر سترة أو معطفاً أو لحافاً تنزلها السماء (طائرة مساعدات) أو تقذفها أمواج البحر (سفن الإغاثة). ستدخل المساعدات خلال الهدنة! سيخرج الأسرى والسجناء الفلسطينيون من سجون الاحتلال. إلى أين سيخرجون؟ إلى الحرية؟ إلى البرد؟ وإلى الإبادة؟ وهل ستدفئ البطانيات الأطفال الذين نجوا، أم تتحوّل لأكفان لهم قريباً؟ هل يمكن أن تثق في اليوم الآتي؟ في دوران الأرض؟ في مرور السحب؟ ربما، لكن ليس في البشر.

أبسطُ السجّادة أمام التلفاز، وأرتّب ذؤاباتها بالمشط كما علّمتني النسوة القديرات. عليها أن تكون مرتّبة ومشذّبة. ثم أعود وأخرّبها وأنا أسمع عن جثث الفلسطينيين التي نهبها المحتلّ الإسرائيلي ليقصّ جلودها ويتاجر بها. فلنرتّب فوضى القيم أولاً، ولنشذّب قوانين إنسانيتنا، أو ما تبقّى منها قبل أن يعصف بها الشتاء الطويل المقبل.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها