السبت 2023/10/14

آخر تحديث: 14:27 (بيروت)

أولاد لا أحد

السبت 2023/10/14
أولاد لا أحد
طفلة أنقذتها فرق الدفاع المدني من تحت أنقاض مبنى منهار في غزة (غيتي)
increase حجم الخط decrease
ماذا الآن؟ هل نبكي الزميل عصام عبدالله؟ أم نقلق على الزميلتين كريستينا عاصي وكارمن جوخدرا؟ أم نقف مذهولين آملين ألّا تستعر الحرب؟
هل نُعدّ أطفالنا لأصوات القصف؟ أم نهيئهم نفسياً لاحتمال أنهم قد يصبحون يتامى؟
هل نحزم حقائب صغيرة أو كبيرة أم نكمل حياتنا؟
هل نتمنى الثأر لعصام.. أم نتمنى ضبط النفس؟
هل الجُبن مسموح في أوقات الحرب؟
هل الخوف شرعي؟
هل الخنوع والرغبة في السلام خيانة لأطفال غزة؟

للضحايا في الحروب مَراتب. فالحرب تخلّف يتامى وأرامل وثكالى وآباء يبكون شبانهم وشاباتهم وعائلاتهم. تصعب إشاحة النظر عن الصور والفيديوهات التي تعج بها مواقع التواصل الاجتماعي.

كنتُ أظن أني اعتدتُ مشاهد الموت، فمشاهد الضحايا في الشاشات ليست جديدة. كم مِن حرب ومِن بعدها حرب فحرب وحرب مرّت علينا. مشهد الموت واحد.

شهادات "صامتة" يدلي بها أطفال خلدوا إلى نوم أبديّ، أفواه مفتوحة تكشف أسنان الحليب، أو تأخذ شفاهها شكل مثلّثات فارغة في الوسط، وعيون تأبى جفونها أن تغلق بإغماضة كاملة، تطبع وجوههم.

مشهد يتسلل إلى المخيلة ويحتلها، لا يترك مجالًا لأي شيء آخر. يجبرها على رسم سيناريوهات كابوسية لا تجرؤ حتى على لفظها بصوت عالٍ.

أتساءل حول هول ما رأت عيونهم في اللحظات الأخيرة، أتساءل عن معنى الفتحة في ثغر ذلك الطفل الذي بدا مبتسماً. هل كانت ابتسامة غير مكتملة؟ أم هي "شهقة" ناجمة عن عظم الرهبة التي ألمّت به قبل موته؟ هل كان ينادي "ماما" مستنجداً بحنانها؟ أم كان يناشد "بابا" مستغيثاً، علّ والده ينقذه من موت محتم؟

أنظر طويلاً إلى المَشاهد المتسللة من خلف الحدود، أقارنها بما عشناه في حرب تموز 2006. أعلم أني لستُ حِملَ حرب أخرى، لن أستطيع التفكير بأن أعيش حرباً جديدة، أو أن تحيا ابنتي حربها الأولى، هي التي ما زالت تتكلم عن انفجار بيروت وصوته بحرقة لا أستطيع وصفها.

لا أفرّق ابنتي عن الأطفال الآخرين، كما لن أقول "يسواها ما يسوى أطفال غزة". فحقها عليّ، كما حقّ أطفال غزة وغيرهم من أطفال العالم، أن يعيشوا بأمان، تماماً كما كان حقنا الذي سُلِب.

أنظر إلى الصور وأشكر القدر أن مَن في الصور ليسوا أطفالي. لا ليس هذا فقط.. أنظر طويلاً إلى المَشاهد عاجزةً عن فهم العِبرة من تكراره. أركّز على لعن الزمن والقدر الذي يضعنا ويضع أطفالنا في المشهد نفسه مع اختلاف أسماء الحروب وأماكنها، لأن أطفالنا يستحقون الحياة.

رائحة الموت تتسلل من خلف الشاشات، أطفال وأطفال وأطفال، يطاردونك ليلاً ونهاراً. صُور تحتل مخيلتك لتشكك في جدوى الحياة، في عِبرة الخالق، مفهوم الخلق، قبل التشكيك في صحّتها وهي الحُجّة التي لا يتورّع كثيرون عن استخدامها، غير آبهين بأدنى مفاهيم الإنسانية.

هل أكتب مستنكرة؟ أم أكتب خائفة؟ أم أكتب لأطفئ شريط الأسئلة الذي يدور في رأسي تحت وقع التهديدات بقطع الانترنت، بعد الماء والكهرباء، عن قطاع غزة؟ ينشطر رأسي إلى شطرين. الأول يريد أن يحلل بالمنطق، والآخر مأخوذ بلوعة ما يحصل. جَلد للذات بين فكرة نبذ العنف والحروب على أشكالها، وبين الحق في المقاومة والدفاع عن الأرض.

أطرح مئات الأسئلة السياسة والعسكرية، وأقرأ تحليلات تلو أخرى، وأستمع إلى نشرات الأخبار مراراً وتكراراً، وأخلص إلى نتيجة واحدة كل مرة.. لو يعود الزمن إلى ما قبل يوم السبت 7 أكتوبر 2023.

خنوع، جُبن، أم استسلام... لا أدري. نأبى مشاركة الصور الموجعة خوفاً من أن تقع في أيدي أطفالنا الذين يشاركوننا أجهزتنا الذكية. نكتب كمَن يعترف بين يدي كاهن سيغفر له خطاياه، نحقن ضمائرنا بأننا أدّينا قسطنا من التضامن، قبل العودة الى حياتنا... المهددة.

"ثم أفكر بمرارة أنّ موتى الحروب، وخاصة الفقراء منهم، هم أولاد لا أحد"، كتبت هدى بركات في "ملكوت هذه الأرض".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها