الجمعة 2023/10/20

آخر تحديث: 00:01 (بيروت)

وأعرف دربي... ويرجع شعبي

الجمعة 2023/10/20
وأعرف دربي... ويرجع شعبي
لوحة للفنانة الفلسطينية هبة زاقوت التي استشهدت قبل أيام بالقصف الإسرائيلي على غزة
increase حجم الخط decrease
أنظر في وجوه الأطفال اليوم. ندوبٌ متوارثة. صرخات تبحث عن أمها، ونظرات لا أبجدية يمكن أن تصف الحياة فيها. وأعود بذاكرتي للصفحة الأولى من كتاب القراءة قي الصف الأول، تلك الصفحة التي لطالما أردت تجاوزها، فالفن التشكيلي أو ما يُقاربه من سوريالية قد يبدو ثقيلاً على الأطفال، لكني كنت أحاول فكّ رموزها عبثاً.

طفلٌٌ يدير وجهه ويكتب على الجدار. مشاغبٌ لا بدّ، وعاقبة وخيمة تنتظره لفعله الشائن. سألتُ أمي، لأفاجأ بأنها تشيد به! قالت: طفل الحجارة. أستغرب، ويزداد فضولي، ولأني لم أكن قد أجدتُ القراءة بَعد، سألتها: ماذا يكتب؟ لتجيبني: "فلسطين داري".
لكن، ما بالهم والحجارة؟! فتردّ باقتضاب بأن هناك عدوّاً يقاتلهم ولا يملكون سوى الحجارة لردعه...

تكوّنت الصورة التي عجزت كل الصور بعدها أن تمحوها إلى اليوم، فصارت يقيناً في الذاكرة: يحقّ لطفلٍ أن يكتب على الجدران، ويصرخ في وجوه الكبار، يرشق الحجارة، فقط إن كان طفل تلك الصورة. وما زاده الوعي، كان أكبر من أن يستوعبه عقلي الطفولي الغض. العدوّ لا يقاتل الأطفال فحسب، بل ينكّل بضروع أمهاتهم، يهدم غرفهم الملوّنة، يحرق ألعابهم، ويهدم سقف المدرسة على المقاعد... كان هذا جليّاً في الأخبار التي كنا نبغض، فشارتها تعني التزامنا الهدوء التام ليتمكّن الكبار من الإحاطة بمجريات الأحداث. وكلما حمل الأثير خبراً يفيد بتهدئة وضبط النفس، ضحك جدي مستهزئاً وقال لي:
"شايفة هذا يا جدو... هذا أكبر الكاذبين، يقول كفى قتلاً، لكنه حالما يعود لمنزله، يتصل بهم  ويقول زيدوا القتل سلمت أيديكم!". كان الكاذبون يتناوبون على الشاشة الصغيرة. هكذا أكّد جدي، أنهم شلّة منافقين، وأنا أصدّق جدي مهما قال.

انكسارات والد محمد الدرّة، أحدثت صدوعاً لدى جيلنا، جيل الثمانينيات، كذلك انتفاضات الأقصى المتتالية.

أحببتُ تلك البلاد! حلمتُ بزيارتها. فوجئت يوماً على شاشة التلفاز، ببيوت قرميدية، وشوارع منظمة، يافطات بلغة غريبة، قال أبي بأنها حيفا... الله يا حيفا ما أجمل بحرك وبرّك! دقائق مكرّرة وكفى... يبرّر والدي قصرها بأن الاحتلال لا يسمح بتصوير تلك البلاد، حتى لا تُستثار الحسرة ومن ثم الغضب لاسترجاعها!

كبرت تلك البلاد فينا كلّما كبرنا، نحن أصحاب كتاب القراءة القديم. وزادت الذاكرة من الأسى حجراً، نرشقه على عجزنا مع كل انتفاضة تُسفر عنها شلالات دماء.
شممت رائحة "بردقان البلاد" كما شمّه خالد تاجا (في مسلسل "التغريبة")، كانت قطراته تنزّ في فمي قبل أن يغصّ بها أبو أحمد... ما سرّ هذا الحب يا الله؟!
لربما في صلة القرابة، ووحدة الأرض، لربما تلك الحمية العربية التي لا ترضى أن يُسلب منها حقّ…

اليوم أتاني الجواب وافياً في عيني طفل يبكي أخاه، يودّعه بانكسار، وطفلة تحتضن أختها الصغيرة تسأل برجاء منقذها أن يخبرها أين أمها. القاسم المشترك كان نظرات لا يمكن أن تُفسّر، ولا يمكن لأحد تأويلها، تماماً كتلك اللوحة في الصفحة الأولى من كتاب القراءة. أسباب تخصّهم وحدهم، أطفال الحجارة... تستثنيهم من كلّ قاعدة.

لم يعد غريباً أن يساق طفل العاشرة إلى سجنه، تحيطه ثكنة مدجّجة، في حين طفل العاشرة يحتاج مساعدة لربط حذائه في كل مكان. ولا يعود مستهجناً أن تمسح طفلة الرابعة دماء أختها الشهيدة بثبات، وتترحم عليها يقيناً بأنها نالت الشهادة. يقين كذاك الذي يشدّ من قبضات الجدّات على مفاتيح خشبية كبيرة، بينما طفلة الرابعة في ضفة موازية، تطلب المساعدة من أمها أن تخيط ثياب الباربي.

في أحداث لبنان (1982) رأى أبي طفلاً "بيونيفورم" مدرسيّ، يحمل حقيبته على ظهره وقد تدحرجت منها تفاحة، كان مرمياً على الأرض يتوسّط بركة دماء، يحوم الذباب فوقه معلناً ساعات مقتله الطويلة، لم ينتشله أحد لإسعافه أو حتى لدفنه! يتراكض الجمع حوله، كلٌّ لشأنه. عاد أبي لمكتبه، رسمه بالكلمات، منحه إسماً، في قصة قصيرة، وحين أتمّها، تسللت نيّته لي، أنا القابعة في أحشاء أمي أنتظر إسماً لم يكن مألوفاً في وقتها.

نور الذي قتلته الحرب، لن يسامح، وأنا معه! لن نغفر لمَن مرّ وتحاشاه، حتى أنت يا أبي!
لن نسامح من شقّ الورقة الأولى من كتاب القراءة، ولا مَن مرّ بمقطعٍ لطفلٍ يبحث عن أهله تحت الردم، فمرّر سبابته سريعاً على الصورة ومضى حتى لا ينفطر قلبه.
لن نسامح أمّاً لا تشرح عن تلك البلاد بقرميدها، وزوارق صياديها، عن أبراجها المبنية للمرة الألف، عن رائحة المسك في مشافيها الفقيرة، عن شهادات غاب أصحابها، وما زالت معلّقة على الجدران، عن ثياب العيد المحروقة، وفردة الحذاء الضائعة... لن نسامحكِ إن لم تنشدي لطفلك حين يسألك عن تلك البلاد، وقبل أن ينام:

وجوهٌ غريبة    بأرضي السليبة
تبيعُ ثماري     وتحتل داري
وأعرف دربي  ويرجع شعبي
إلى بيت جدي  إلى دفء مهدي

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها