السبت 2023/09/02

آخر تحديث: 14:40 (بيروت)

أمٌّ تُعاني رُهاب المدرسة

السبت 2023/09/02
أمٌّ تُعاني رُهاب المدرسة
(غيتي)
increase حجم الخط decrease
كان من أصعب القرارات، إختيار مدرسة لإبنتي، بعد جولات على مدارس عديدة، والبحث في أسس تدريسها ومنهجها التعليمي الذي من المفترض أن يقوم على تنمية المهارات، والإبتعاد عن التلقين والدرس.. ومن ثم جولة في أقساطها المخيفة، ومن ثم مقابلة مع الكادر التعليمي ليُجيب عن أسئلتنا، ومخاوفنا، وقلقنا. وفي لبنان ندرس كأمهات وآباء، مدى قرب المدرسة إلى البيت، في حال وقوع حدث أمني أدى إلى إحتجاجات وإقفال الطرق، وكأننا ندرس خطة أمنية لإجلاء أطفالنا من مدارسهم!

منذ بدأنا البحث عن المدرسة، يتملّكني رُهاب مخيف، من فكرة المدرسة. وكأن كل ما لم أستطع البوح به خلال سنوات دراستي، برز حين بدأنا البحث عن مدرسة لإبنتي. أسترجع شريط ذاكرتي الدراسي، من الروضات حتى الإبتدائي وصولاً إلى الثانوي، ثلاث مدارس تنقلت بينها.. لم يكن يومذاك، من يستدرك أوينتبه إلى ما فعلته المدارس بنا، من نظام تأديبي وتعليمي وقصاصي وديني، وصولاً إلى المرحلة الثانوية، التي طغت عليها النقاشات السياسية، في كل حصة "فراغ". لم تكن أحلامنا ومهنتنا المستقبلية موضوع أحادثينا أنا وزملائي آنذاك.

أفكر في أول يوم لإبنتي في المدرسة، ومشقة الإستيقاظ باكراً، وحمل الحقيبة المدرسية بعد إجتياز مرحلة الروضات. حقيبة سيضاهي وزنها وزن طفلتي. وفكرة المعلمة والأستاذ التي زُرعت في عقولنا، الخوف والقصاص الذي ينتظرنا... وبيتُه في الجنة، ذلك الذي تُغرم به المعلمة أو الأستاذ ليحظى بإهتمام وتمايز عن زملائه في الصف.

هكذا كنا، وما زال  الوضع سارياً حتى اليوم، مع إستثناءات بطبيعة الحال. حتى اليوم، لم نجد طفلاً أو طالباً مُغرماً بالذهاب إلى المدرسة. ربما يغرمون بمادة أو إثنتين، ويجد بعضهم المكان أشبه بـ"سجن"، يترقب عقارب الساعة حتى إنتهاء اليومي الدراسي. وبات طلاب اليوم يحسبون عدد أيام العطل المدرسية قبل بدء العام، ويأملون أن تكون الإمتحانات قبل العطل المدرسية الكبيرة كأعياد الميلاد ورأس السنة، والفصح وغيرها.. كي لا تكون العطلة "زربة منزلية" للدارسة.

حتى النشاطات المدرسية، كانت ذات طابع تمييزي، أقلّه في مدرستي. فالمشاركة في الإحتفالات والصعود إلى المسرح كان من حصة الطلاب المتفوقين. حظيت في مدرستي بالمشاركة في مسرحيات باللغة الفرنسية عُرضت في مدارس مختلفة، طبعاً لأني أجيد التحدث باللغة. علماً أني نسيت الفرنسية كُلياً عند البدء بالدراسة الجامعية، وحتى اليوم أجد صعوبة في جمع مفردات اللغة حين أود الحديث بها.

خلال المقابلة المدرسية لإبنتي، حاولت ناظرة قسم اللغة الفرنسية إقناعي بأن تكون الفرنسية لغة طفلتي، وهذا ما رفضته. إكتفيت بالإجابة بأنها ستتلقى صفوفاً باللغة الفرنسية في المراحل الإبتدائية، وهذا كافٍ، في ظل هيمنة اللغة الإنكليزية في التعليم والحياة المهنية مستقبلاً. مازحتها بالقول: "لا أريد أن تقضي ابنتي وقتها في حفظ 1200 verbes des conjugasions" أي الأفعال الفرنسية التي تحظى بكتب خاصة بها ورافقتنا طوال رحلتنا المدرسية.

ثم ننتقل إلى السؤال عن عدد الطلاب في الصفوف. كنت أعلم أن الصف الواحد يحوي أكثر من 25 طالباً، وهذا عدد كبير، لا سيما في الصفوف الأولية حيث يحتاج الطفل إلى الإهتمام والمتابعة الفردية، فطمأنتني الناظرة بأن كل تلميذ سيأخذ حقه. والمدرسة التي وقع عليه إختيارنا، ذات صيت واسع، من تفوق تلامذتها في الشهادت الرسمية على صعيد لبنان. سألتها عن مدى الإهتمام بالطلاب الذين لا يحققون المراتب الثلاثة الأولى في الصف، وهل سيكون الطلاب الأخرون عرضة، للتمييز التعليمي، وعدم إكتشاف مهاراتهم؟ حاوَلت المسؤولة الدفاع عن الفكرة بقول العكس: "أن الطلاب الأوائل هم الذين يُظلمون، كون التركيز ينصبّ على بقية الطلاب، على إعتبار أن الطالب المجتهد لا يحتاج الكثير من المتابعة".

طبعاً لم أدخل معها في سجال عقيم، لكني، بيني وبين نفسي، استهزأتُ بالجُملة. مر شريط رحلتي المدرسية أمام ناظريّ، حين اكتشفتُ قدراتي وميولي العلمية في مرحلة الثانوية، وكان ذلك بفضل أستاذ الفلسفة! اكتفيتُ بالقول بأنه ما من طالب كسول، بل هناك طلاب لم تُكتشف مهاراتهم، وهذا لا شأن لك كأستاذة به، بل يعود إلى المنهج التعليمي المتبع في لبنان، لكني آمل أن يكون أستاذة اليوم أكثر وعياً..

ومع إقتراب العام الدراسي الأول لإبنتي، ومحاولتي إعدادها له، أحاول أن لا أنقل لها، من دون أن أنتبه، رهاب المدرسة، فلا تقع فيه يوماً. أفكر في المرحلة الإبتدائية والمتوسطة، وأتخيل ساعات الدراسة بعد المدرسة لإكمال الواجبات والفروض المدرسية. هل سأضيع معها، أنا أيضاً، في حلّ معضلات الرياضيات؟ أم أتذكر النكتة المتداوَلة في وسائل التواصل الإجتماعي لصورة تجمع الإبن مع أمه، وبكائهما معاً في محاولة إعراب ما تحته خط؟!

سأحول ألا أنقل لإبنتي مقارنات النظام التعليمي في لبنان والخارج الذي لست على دراية بمناهجه كاملة ولا بالصعوبات التي واجه الطلاب في دول أخرى. لكن هناك مشهداً طُبع في ذهني، خلال رحلة إلى برشلونة قبل أعوام، لمشهد تلامذة صغار، يصلون إلى مدارسهم عند التاسعة صباحاً على دراجاتهم الهوائية، ويدخلون الصفوف بلا حقائب مدرسية. وقد تسمّرتُ حينها أمام نافذة المدرسة، أراقب دخولهم الصف، وسعادتهم، وتفاعلهم مع أساتذتهم. بل ازداد فضولي، فسألتُ أحد الآباء أمام المدرسة عن المدارس في برشلونة وطبيعتها، ليُجيبني بأن لكل بقعة جغرافية صغيرة مدرسة، تكون قريبة على المنزل والعمل، يأتي إليها الطلاب سيراً على الأقدم أو على الدراجات الهوائية. وفي وقت الظهيرة، يأتي الأهل من عملهم ليتناولوا الغداء مع أطفالهم في مكان قريب، ومن ثم يعودون إلى عملهم، لتنتهي المدرسة في الخامسة مساء، وفترة بعد الظهر تملأها النشاطات، ونوادٍ يختارها الأطفال، لتنتهي في وقت يوائم خروج الأهل من وظائفهم. هو مشهد صغير في دول أوروبية، أو في منطقة جغرافية في برشلونة، فما بالك بمدن ودول أخرى؟

ولا أنسى حواراً مع معلمة، تُدرّس في إحدى المدارس الرسمية في لبنان، ونقلها معاناة المدرّسين في تحصيل أجورهم. سألتها لماذا لا تلجأ إلى التدريس في المدارس الخاصة، فقالت إن تحضير المواد للتدريس في المدارس الرسمية سهل وغير متعب، ويحصل إضراب معظم العام،  أما إذا إنتقلت إلى مدرسة خاصة، فستكون مجبرة على تقديم وتحضير المواد التعليمية لتُوائم منهج الدارسة، والكم الهائل من الطلبات التي تقع على كاهل الأستاذ... أي أن هناك استهتاراً تاماً بتعليم الطلاب في المدارس الرسمية، وكأنهم "أولاد جارية وليسوا أولاد ست"! فكيف بهؤلاء أن يكونوا مؤتمنين على حياة ومصير آلاف الطلاب؟!
و ما زلت أسأل نفسي: متى أتعافى من رُهاب المدرسة؟!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها