الجمعة 2023/11/10

آخر تحديث: 21:51 (بيروت)

فوق الحطام.. أحمر شفاه

الجمعة 2023/11/10
فوق الحطام.. أحمر شفاه
الفنانة الفلسطينية ملاك مطر
increase حجم الخط decrease
الصور والفيديوهات الآتية من غزة، ترابية. تحول كل ما ومن في غزة إلى اللون الرمادي، بفعل أتربة البيوت المهدمة ورماد الصواريخ. لكن يحدث أحياناً، أن تخرج من وسطها الألوان، بطلتها طفلة ربما في الثامنة من عمرها، من حولها أثاث مكسر وبيت مهدم ويجلس أمامها شخص ما يحاول تسليتها، تمسك الصغيرة بعلبة مكياج في يدها وتطبع البودرة على وجهه وهو يستقبلها بسعادة.

@bouchra_kd1 she saved her makeup , and you saved her smile ❤🇵🇸 @motaz_azaiza #free_plastine🇵🇸 #save_gaza #ادخال_المساعدات_لغزة #غزة_فلسطين ♬ son original - Bou_Chra❤🇩🇿

الفيديو المنتشر ليس مشهداً في فيلم سينمائي، بل واقع. طفلة، كل ما تملكه بعد بيتها الركام، هو علبة مكياج. ربما كان آخر ما أنقذته قبل أن يُقصف البيت، أو ربما يذكرها بأمها... الشهيدة؟ هل تقبع أشلاؤها تحت هذه الأنقاض؟ هل ما زالت هذه الصغيرة حية، هي التي أعطت لوناً مؤقتاً للطفولة في غزة؟

تلك الصغيرة ذكرتني أن النساء، ومنذ نعومة أظفارهن، كلما اشتدت الأزمات، اشتد بحثهن عن مصدر لأي لون يضفي بهجة على المشهد الذي لا يوجد ما يدل على تغير لونه في القريب العاجل. النساء يُجِدن التحايل على واقع بلَونين: أسود ورمادي.

قبل سنوات كنت في زيارة إلى لبنان، ذهبت إلى مخيمات للاجئين السوريين، وكان وقت زيارتي في يناير، عقب عاصفة شديدة وقوية، أطاحت خيمهم وسقط منهم ضحايا جرفتهم السيول. كنت هناك في صباح اليوم التالي، والأرض غارقة في مياه موحلة، والخيام البلاستيكية والقماشية متناثرة في كل مكان، وبالكاد استطاع البعض إسناد قطعة خشب من هنا على قطعة من هناك، لإعادة إقامة أعمدة الخيمة مرة أخرى. ذهبتُ، وصديقتي الصحافية اللبنانية، إليهم، وأنا أعدّ الكلمات: ماذا سأقول؟ كيف أعبّر عن مواساتي وأنا شخص فاشل في ذلك تماماً؟

كنت وسط قطعة أرض حيث تتناثر الخيام من حولي، واستقبلتني خمس نساء في أوائل العشرينات من عمرهن. مبتسمات، أنيقات، ونظيفات، يرتدين عباءات نظيفة وملونة، وأغطية رأس مكوية حتى أطرافها. لكن الأغرب أنهن جميعاً تزينّ بالمكياج البسيط، أحمر شفاه تشاركنه جميعهن، وكحل أسود، وحمرة خدود. ربما كان ذلك ما يشعرهن أنهن موجودات، أنهن على قيد الحياة وباقيات، أنهن مرئيات. هكذا قلت لنفسي، فالنساء يحببن أن يظهرن جميلات دوماً، وهن كذلك.

يقول السطحيون إن النساء يستخدمن المكياج ليظهرن أجمل، أو كي يخفين عيوبهن. لكن هل جربت أن تتكون أسفل عينيك طبقات من الهموم والحزن، تشكل هالة سوداء من الصعب إخفاؤها؟ هل جرّبت أن تُخفي شحوب الوجه والشفتين اللتين تعلوهما ابتسامة قسرية، تتحدى الواقع والأوضاع المأسوية، بأحمر شفاه؟ هل جرب رجل أن يعيش كامرأة لاجئة تهدم بيتها أو طارت خيمتها التي لا تحميها أصلاً من صقيع يناير، ليوم واحد؟

النساء في المخيم كن يحكين أوجاعهن وهن مبتسمات. ابتسامة تبدو في ظاهرها مصطنعة، إلا أن المتبحر في تاريخ ثقافات المنطقة سيجد أن النساء لطالما كن في الصفوف الأولى وقت الحروب، يشجعن الرجال بالأهازيج والأغاني الوطنية والشعبية، فليس بأمر بعيد أن يكنّ مصدر البهجة والطاقة والحيوية.

ببحث بسيط، وجدتُ العشرات من المقالات والأبحاث والدراسات التي تؤكد أنه، عند اشتداد الأزمات، يزداد إقبال النساء على أدوات التجميل والزينة. ففي مجلة "فوربس" مثلاً، مقال عن تأثير أحمر الشفاه أو ما يعرف بـLipstick Effect، ذلك المصطلح الذي ظهر العام 1998 على يد أستاذة الاقتصاد وعلم الاجتماع، جوليت شوور، التي قالت إنه في أوقات شح المال، يزداد بحث النساء عن أحمر الشفاه، فيُقبلن على شرائه.

ذلك أمر لم أفهمه منذ سنوات عن صديقتي الغزاوية المقيمة في القاهرة، إلا مؤخراً. كانت كلما اشتدت الأزمة في غزة، تبتاع أدوات مكياج وملابس ملونة جديدة، وتنفق آلاف الجنيهات، رغم ملامحها الجميلة والبسيطة التي لا تحتاج كل هذا القدر من الألوان.

بالعودة إلى لبنان، حينما أنهيت زيارتي، ذهبت إلى بيت صديقتي في صوفر، وهناك علمت أن خلف بيتها عائلة من اللاجئين السوريين. ذهبت إليهم في الصباح بلا موعد مسبق. فقط طرقت الباب، فاستقبلتني ربة البيت بود وترحاب. ورغم الثلوج التي كانت تغطي صوفر وقتها لتصل إلى الحناجر، إلا أنها وأطفالها كانوا نائمين على أرض تخلو من الأسرّة. لا شيء سوى سجاد تعلوه بطانيات تدفئ 5 أطفال ناموا حاضنين بعضهم البعض للشعور بالدفء. كان بيتها بسيطاً، إلا أني شعرت فيه بالدفء. اعتذرت كثيراً عن عدم جهوزيته، لأنها وأطفالها استيقظوا للتو. حكت لي حكايتها وكيف جاءت مع عائلتها وكيف يعيشون، بالابتسامة الراضية نفسها. بدت لي امرأة عادية طبيعية، تحكي شفاهها الباهتة أوجاعاً لا تظهر في ملامحها.

كان ذلك قبل أن أتذكر في الظهيرة أني لم ألتقط أي صورة لها أو للبيت، فذهبت مستأذنة، مرة ثانية، لالتقاط صور، لتظهر لي هذه المرة بأحمر شفاه فاقع، وشعر مهندم بخصلات ذهبية، تم كيه للتو بمكواة الشعر، وملابس أنيقة ونظيفة. كانت امرأة أخرى.

قبل كتابة هذه السطور، لم أكن قد فقدت أي صديق أو قريب في غزة. لكني، قبل أيام، علمت بوفاة صديقتي الناشطة النسوية المصرية مي جمال مصطفى، في إحدى الغارات على حي الشيخ رضوان، أثناء زيارتها لعائلة زوجها في غزة. أجمل ما فعلته المؤسسة حيث تعمل، في نعيها، أنها نشرت صورتها وهي مبتسمة، وفي أجمل طلة لها. لم تكن مي تحب المكياج، ولا أحمر الشفاه، لكني متأكدة أنها لو كانت لا تزال حية، ونشرت صورة لها من غزة، لكانت بحسها النسائي والنسوي ستضع أحمر شفاه تتحدى به الواقع الأسود.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها