الإثنين 2023/11/20

آخر تحديث: 18:38 (بيروت)

هؤلاء الأطفال لم يكونوا أصفاراً

الإثنين 2023/11/20
هؤلاء الأطفال لم يكونوا أصفاراً
الفنانة المصرية تسنيم مرغني
increase حجم الخط decrease
تدهشني مقدرة الناس من حولي على التّعبير عن غضبهم لدى رؤية بشار الأسد، "الخطيب المفوّه" مُحاضرًا بالمبادئ الإنسانيّة في القمة العربية منذ أيام. "المُنتصر" الذي كرس غلبته بدماء شعبه وأبناء جلدته، وإشراك شتّى المليشيات والدول في المقتلة، والرقص على جثث السّوريين وتدنيس حرمة أحلامهم بالحريّة والحقوق، كما يفعل الإسرائيليّ، حدّ التّماثل السّورياليّ. تُدهشني المقدرة على الشتم والازدراء بهذه العصبيّة، أنا التّي، إن أبرع في شيء، فهو التّعبير عن السّخط لدى حاجتي إليه، وانتفاء سلطتي على الواقع وما يحصل.

لم أشاهد "خطبته الحقوقيّة" بأكملها، ولم أُعلّق عليها، ولم تُسعفني كلماتي في المشاركة بحفلة الاستنكار العام. بل اكتفيت بمشاركة فيديو قصير في فايسبوك، يُظهر التّماثل آنف الذكر بين المجازر التّي ارتكبها في إدلب ودرعا وحلب، والمجازر في غزّة. وفي بالي محاكاةٌ واحدة، إسقاطٌ "فلسفيٌّ" واحد على مشهدية الأسد الجالس في "الحضن العربيّ" و"الحضن الإسلاميّ"، يتحدث عن غزّة والاحتلال الإسرائيليّ، لم أستطع لجمها: الأسد، كنذير لانكشاف وصول فرسان رؤيا يوحنا الأربعة (فرسان نهاية العالم)، التحقق المُطلق لبلايا السفر الأخير، كما يأتي ترتيبه عادةً بين مجموع أسفار العهد الجديد: الغزو، الحرب، المجاعة، الموت.

لحظتها، لم يكن الأسد وريث أبيه الذي اضطهد الفلسطينيين أنفسهم، مع وحلفائه. ولم يكن مجرم الحرب الذي أسهم مباشرةً في تهجير ما يربو على عشرة ملايين سوريّ وقتل نحو نصف المليون شخص، وعطب الملايين، وإيداع الآلاف في أقبيته ومعتقلاته. ولم يكن حليف روسيا وإيران. بل لحظتها، ومن كرسيه، كان التّجسيد المتعرّي من كل قيد، للنبوءة. الناطق بإسم الفوضى الغامرة، التّي تحصل الآن في غزّة، لنهاية عهد الإنسان وتحول الإنسانيّة المحض إلى مقبرةٍ متراميّة تسكنها أشباح الضحايا، حكاياتهم، أحلامهم، أمنياتهم الأخيرة، وتتربص بالتّاريخ والذاكرة. كما هو الحال في سوريا، والعراق، واليمن، ولبنان، وإيران، وأوكرانيا، وفلسطين، وسائر الدول المنكوبة. وتحول سكّانها إلى أرقام، رغماً عن أنوف أُسَرهم والأرشفة، والحقوقيين، والغيارى على الحياة.

منذ السّابع من أكتوبر، حاولت النأي بنفسي عما يحصل في غزّة، لا تخاذلًا، بل جُبنًا مني. لكن اليوم، وبعد 45 يومًا على كل الانتهاكات الجهنميّة والمجازر الفظيعة التّي ارتكبتها إسرائيل بحقّ المدنيين العُزل، لتهجير مليون ونصف المليون إنسان، وإبادة الحياة في غزّة، وتوسيع المعارك إلى الضفّة والجنوب اللّبنانيّ، وتكريس الحلم الصهيونيّ بأرض صهيون التّي وُعدت بها و"اصطفاها الله لها"... وبرؤية الأسد على المنصة، يُحاضر، يدعو ويتكلم عن "دورنا" في وقف العدوان على غزّة، يُقارع أشباهه من قتلة المدنيين والأطفال، جعلني أدرك أني للحظات كنت في صفّ المارقين، الصامتين، أو المتكلمين على مضض. الدرس الوحيد الذي تعلمته من الأسد أن جُبني يُشبهه، فلم أصمت عن ذلك.

لم أستطع استئناف سكوتي المقيت تجاه ما يحصل، متخاذلةً ومبرّرة تخاذلي الأرعن بفرضيّة "التروما" وبمبادئي والتزاماتي الحقوقيّة. لم أُعد مؤمنةً بعقيدة النظام العالميّ الجديد الذي كُرس بعد الحرب العالميّة الثانيّة، ويدعي عدم تسامحه مرّة جديدة مع الإبادة النازيّة وما يُشبهها- الجرح الذي لم يندمل بعد في الوعيّ الأوروبي. للحظات، لم تعد هذه الازدواجيّة الحقوقيّة التّي ينتهجها هؤلاء تعنيني. ولم تعد الذاكرة الخاليّة من سيل الدم الجارف، والوقوف بمنأى عنه، بالمنطقيّة نفسها التّي عهدتها.

يُحاجج جان بول سارتر قائلًا أن "الوجود يسبق الماهيّة"، مُعتقداً بأن الإنسان هو من يصنع ماهيته، وبالتّالي يكون مسؤولاً عن تصرفاته وأفعاله. أي أن الإنسان، بداية حياته، يكون قد بدأ من الصفر، لأنه لم يكن شيئاً. لكني، وبالرغم من إعجابي الشديد بفلسفة سارتر الوجوديّة، لم أستطع إزاحة التّصور التّالي: أطفال غزّة وسوريا، كانوا "شيئاً"، كانوا وجوداً تتجلى فيه الماهيّة البحتّة التّي حُرموا من فرصة صنعها. إلا أن العالم تسامح مجدّدًا مع الإبادة، مع إبادتنا وإبادة أبناء جلدتنا، مرات عديدة، وبإسم الإبادة سوّغ للإبادة، وبإسم الأطفال برّر مذبحة الأطفال. وبإسم الماهيّة برّر إلغاء الوجود.

وبالعودة لفرسان نهاية العالم الأربعة، فإن الفوضى قد حلّت، وما الحديث عنها سوى محاولة عقيمة للحؤول دونها. نهاية عهد الإنسان، ونهاية الحقّ المُكرّس، ونهاية الوجود، ونهاية الماهيّة. الحلول المُطلق للفوضى الغامرة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها